سلام بدون مصالحة في أيرلندا الشمالية: دروس لليبيا؟

خلاصة

تعيش أيرلندا صراعاً مستمراً منذ قرون طويلة، وقد أسفرت المرحلة الأخيرة منه، والتي استمرت من عام 1969 إلى عام 1994، عن مقتل أكثر من 3700 شخص بالترافق مع دمار اقتصادي جسيم. ويدور هذا الصراع العرقي القومي بالدرجة الأولى حول مسألة دستورية، وهي ما إذا كان ينبغي أن تبقى أيرلندا الشمالية جزءاً من المملكة المتحدة أو تصبح جزءاً من دولة أيرلندية متحدة. ففي عام 1998، توصلت الحكومتان البريطانية والأيرلندية والأحزاب السياسية الرئيسية في أيرلندا الشمالية إلى اتفاق الجمعة العظيمة (أو اتفاق بلفاست) الذي أدى إلى إحلال سلام نسبي في المنطقة، فأجريت إصلاحات كبيرة في مجال حفظ الأمن والعدالة، وكُرّس مبدأ المساواة في جميع أنحاء المجتمع الأيرلندي الشمالي. يناقش هذا التقرير كيف خرجت أيرلندا الشمالية من الصراع إلى السلام النسبي، وينظر في المؤسسات التي نتجت عن الاتفاق والمبادئ التوجيهية التي تستند إليها. كما يستعرض التقرير بالتفصيل التقدم المحرز نحو تحقيق المصالحة، ويبحث في مجالات الانقسام المتبقية والتحديات المستمرة أمام المصالحة، بما في ذلك التعامل مع الماضي والفصل المستمر والانقسامات الثقافية وقضايا الهوية والافتقار إلى القيادة السياسية اللازمة لتشجيع المصالحة. وفي الختام، يقر التقرير بأن عملية السلام الأيرلندية أصبحت نموذجاً احتذي به في مختلف أنحاء العالم مع أنها ليست مثالية، ثم يستخلص سبعة دروس قد تكون مفيدة لحالات الصراع الأخرى، مثل ليبيا.

[1]

الكلمات الأساسية: أيرلندا الشمالية، المصالحة، الصراع، الجيش الجمهوري الأيرلندي، الجمهوريانية الأيرلندية، الولاء البريطاني، اتفاق الجمعة العظيمة

تحميل الملف

ملخص تنفيذي

استمر الصراع في أيرلندا من عام 1798 إلى 1994.[2] فقد شهد القرن العشرين الكثير من أعمال العنف، اندلع أولها في عام 1916 (انتفاضة عيد الفصح)، ثم في الفترة 1919-1921 (حرب الاستقلال)، وكذلك بين العامين 1922-1923 (الحرب الأهلية الأيرلندية)، و1939-1940 (حملة التخريب، أو الخطة سين، في إنجلترا) و1956-1962 (حملة الحدود / عملية الحصاد). أما أحدث فترة من الصراع، والمعروفة بتسمية “الاضطرابات”، فوقعت في أيرلندا الشمالية بين عامي 1969 و1994.

أسست أيرلندا الشمالية عام 1921 نتيجة لتقسيم أيرلندا،[3] وكانت دولة خاضعة للهيمنة الوحدوية ومؤلفة من المقاطعات الشمالية الشرقية الست. غير أن الظلم والتمييز اللذين تعرض لهما المجتمع الكاثوليكي تسبّبا في عام 1968 بنشوء حركة الحقوق المدنية غير العنيفة التي طالبت بالمساواة للكاثوليك. فأدت الاشتباكات بين مسيرات الحركة وشرطة ألستر الملكية التي تتألف أكثريتها الساحقة من البروتستانت إلى اندلاع أعمال العنف، فيما تعرضت المسيرات أيضاً للعنف على يد القوات الموالية شبه العسكرية. وشكّل اندلاع العنف في عام 1969، ولا سيما حادثة إحراق شارع بومباي، بداية مرحلة “الاضطرابات”.

يدور الصراع بشأن المسألة الدستورية بالدرجة الأولى حول ما إذا كان ينبغي أن تظل أيرلندا الشمالية جزءاً من المملكة المتحدة أو أن تكون جزءاً من دولة أيرلندية متحدة. وبينما يريد الوحدويون والموالون (وأغلبهم من البروتستانت) أن تبقى أيرلندا الشمالية منضوية ضمن المملكة المتحدة، يطالب القوميون والجمهوريون الأيرلنديون (وهم من الكاثوليك بشكل أساسي) بأن تغادر أيرلندا الشمالية المملكة المتحدة وتصبح جزءاً من أيرلندا المتحدة.

ونظراً إلى مستوى العنف الذي شهده الصراع، والذي أودى بحياة الآلاف وتسبب بدمار اقتصادي كبير، كانت أولوية مفاوضات السلام التي أجريت في الفترة 1997/1998 هي وضع حد للعنف والخسائر في الأرواح. وأدى اتفاق الجمعة العظيمة الذي تم التوصل إليه عام 1998 إلى قيام مؤسسات حكومية متعددة الأحزاب ومبنية على مبدأ تقاسم السلطة، وإلى تغييرات في أعمال الشرطة وحفظ الأمن، وتكريس المساواة، وإطلاق سراح السجناء السياسيين. وبذلك أرسى الاتفاق سلاماً نسبياً في المنطقة.

لكن على الرغم من السلام النسبي، لا تزال المصالحة الحقيقية مجرد طموح. فالجهود الذي بذلت في هذا الإطار تضمنت المبادرات المحلية والتسهيلات من الكنيسة والأعمال النشطة من المجتمع المدني إلى جانب مساعدة دولية كبيرة من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة. ومع ذلك، لا تزال أيرلندا الشمالية اليوم منقسمة على أسس طائفية، بحيث تشمل مجالات الانقسام الرئيسية التعامل مع قضايا الماضي والإرث والهوية، والروايات المتعارضة حول الصراع وأسبابه. ويعوق جهود المصالحة أيضاً الشعور بأن الضحايا والناجين لم يحصلوا على العدالة. علاوة على ذلك، لا يزال الفصل في السكن والتعليم مستمراً، على الرغم من التقدم المحرز في هذين المجالين، حتى أن عدد جدران السلام يفوق اليوم عددها قبل اتفاق عام 1998.[4] كما أن الانهيار المستمر لجمعية أيرلندا الشمالية لم يكن مؤاتياً لجهود المصالحة، بل كشف عن حدود مؤسسات تقاسم السلطة وانعدام الثقة المستمر بين الأحزاب؛ فيما يجادل البعض بالحاجة إلى مراجعة النموذج لتكييفه مع الوقائع السياسية الجديدة.

مقدمة

لدى أيرلندا تاريخ مضطرب للغاية يشوبه صراعٌ عرقي قومي عنيف دام قروناً من الزمن. فقد تناحرت القوميات المتنافسة على مدى ثلاثين عاماً (1969-1994) في أحدث مراحل العنف التي شهدتها أيرلندا الشمالية (المعروفة بـ “الاضطرابات”)، وهي مرحلة وصفت بأنها مستعصية وخاسرة لكل الأطراف. وفي حين يسعى السكان الوحدويون والموالون (البروتستانت بالدرجة الكبرى) إلى البقاء جزءاً من المملكة المتحدة، يسعى السكان القوميون والجمهوريون (وأغلبهم من الكاثوليك) إلى توحيد أيرلندا وإزالة الحدود بين شمال وجنوب أيرلندا التي نتجت عن التقسيم في عام 1921.[5]

وكان الجيش الجمهوري الأيرلندي المؤقت[6] أحد الأطراف الرئيسية في نزاع أيرلندا الشمالية خلال الفترة 1969-1994، بحيث خاض الاشتباكات مع الجيش البريطاني. فقد كان الجيش الأيرلندي يعتبر الصراع استعمارياً بطبيعته ودعا الحكومة البريطانية إلى الانسحاب من أيرلندا الشمالية، زاعماً بأن بريطانيا لا تملك أي حق ملكية شرعي بأي جزء من أيرلندا.[7] في البداية، تم نشر الجيش البريطاني في شوارع أيرلندا الشمالية عام 1969 ليكون قوة لحفظ السلام، ولكن سرعان ما أصبح عدواً بنظر السكان القوميين والجمهوريين الكاثوليك. فانخرط الجيش الجمهوري الأيرلندي المؤقت والجيش البريطاني في معارك متواصلة بالأسلحة النارية في الشوارع، فيما نفذ قناصة الجيش الأيرلندي الهجمات على ثكنات الجيش البريطاني.

وشملت الجماعات الجمهورية شبه العسكرية الأخرى جيش التحرير الوطني الأيرلندي، الذي كان جناحه السياسي هو الحزب الاشتراكي الجمهوري الأيرلندي، والجيش الجمهوري الأيرلندي الرسمي ومنظمة التحرير الشعبية الأيرلندية، بالإضافة إلى مجموعات جمهورية منشقة، منها جيش استمرارية الجمهورية الأيرلندية (تشكل عام 1986) والجيش الجمهوري الأيرلندي الحقيقي (تشكل عام 1997).

كما انخرطت القوات شبه العسكرية الجمهورية والموالية في صراع عنيف بعضها مع بعض. وتألفت المجموعات الموالية الرئيسية من قوة ألستر التطوعية (التي تشكلت عام 1966[8])، وجمعية الدفاع عن ألستر (التي تشكلت عام 1971) والمقاتلون من أجل حرية ألستر (التي تشكلت عام 1971).

بنظر الجيش الجمهوري الأيرلندي المؤقت، تمثل دوره في الدفاع عن المناطق الكاثوليكية وحمايتها من هجمات الموالين: وتضمنت الحوادث حرق شارع بومباي في غرب بلفاست عام 1969. كما انخرط الجيش في القتال مع قوة الشرطة المؤلفة بمعظمها من البروتستانت، وهي شرطة ألستر الملكية البروتستانتية التي تم تشكيلها عام 1922 وحلت محلها في عام 2001 دائرة شرطة أيرلندا الشمالية. وقد أدت مزاعم التواطؤ بين الشرطة الملكية والجماعات الموالية شبه العسكرية إلى عدد من التحقيقات.

كان النزاع مطولاً ودموياً، وأودى بحياة أكثر من 3700 شخص من بينهم العديد من المدنيين. وفيما عانت أيرلندا الشمالية على الصعيد الاقتصادي أيضاً، وجّه الجيش الجمهوري الأيرلندي المؤقت عدداً من الضربات الاقتصادية لبريطانيا، وبخاصة في لندن.[9]

انتهت هذه المرحلة من الصراع العنيف بين عامي 1969 و1994 باتفاق الجمعة العظيمة التاريخي، المعروف أيضاً باتفاق بلفاست، الذي تم التوصل إليه عام 1998 بين الحكومتين البريطانية والأيرلندية ومعظم الأحزاب السياسية الرئيسية في أيرلندا الشمالية،[10] والنقطة المهمة بهذا الصدد هي أنه اعتُمد بالاستفتاء.[11]

وقد أنشأ الاتفاق مؤسسات توافقية تقوم إلى حد كبير على مبدأ تقاسم السلطة[12] وشملت كل الأحزاب السياسية الرئيسية، أي حزب ألستر الوحدوي، وحزب العمال الاشتراكي الديمقراطي، وحزب شين فين، والحزب الوحدوي الديمقراطي، وحزب التحالف، والحزب الوحدوي التقدمي، والتحالف النسائي. وكان العنصر المحوري في الاتفاق هو مبدأ الموافقة، الذي ينص على أن شعب أيرلندا الشمالية هو الذي يقرر مستقبله الدستوري – أي ما إذا كان ينبغي لأيرلندا الشمالية أن تظل جزءاً من المملكة المتحدة أو تصبح جزءاً من أيرلندا المتحدة – من خلال التصويت، أو على وجه التحديد الاقتراع الحدودي. ولم يلغِ الاتفاق التطلعات السياسية بل أفسح المجال أمامها، على أن يتم السعي إلى تحقيقها بالطرق السلمية.

وقد تمثلت الأولوية الرئيسية في إنهاء العنف وإبعاد السلاح عن السياسة الأيرلندية بشكل دائم، وكسر حلقة الصراعات العنيفة المستمرة لقرون. وفي هذه المرحلة، كانت المصالحة تطلعاً سيتحقق بعد الأولوية العاجلة المتمثلة في إنهاء العنف. وشملت جهود المصالحة مبادرات محلية تضمنت قدراً كبيراً من العمل بين المجتمعات المحلية، ومبادرات كنيسية، وجهوداً من المجتمع المدني، بالإضافة إلى اهتمام كبير من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة تجلى في دعم عملي من خلال صناديق السلام التي قدمها الاتحاد الأوروبي.

وفي حين احتفلت أيرلندا الشمالية بمرور خمسة وعشرين عاماً على اتفاق الجمعة العظيمة هذا العام، إلا أنها لم تكن تملك حكومة فاعلة. إذ تم تعليق الحكومة من عام 2022 (للمرة الثامنة)، هذه المرة احتجاجاً على بروتوكول خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. ولذلك، لا تزال المصالحة تشكل تحدياً في أيرلندا الشمالية. ويبحث هذا التقرير في مدى تحقق هذه المصالحة، وفي التحديات المتبقية أمامها.

ينقسم التقرير إلى ثلاثة أجزاء. يدرس الجزء الأول مسار أيرلندا الشمالية من الصراع إلى السلام، فيما ينظر الجزء الثاني في دور المؤسسات في تعزيز المصالحة في أيرلندا الشمالية. وأخيراً، يحلل الجزء الثالث التقدم المحرز والتحديات المتبقية التي تواجه المصالحة في أيرلندا الشمالية. ومن الناحية المنهجية، يستند هذا التقرير إلى بيانات الدراسات الاستقصائية، وتقارير رصد السلام، ووثائق السياسات ذات الصلة والمؤلفات الأكاديمية المتعلقة بالمصالحة في أيرلندا الشمالية. ثم يختتم بالدروس المحتملة التي يمكن استخلاصها من تجربة أيرلندا الشمالية والتي قد تكون مفيدة لليبيا.

1. مسار أيرلندا الشمالية من الصراع إلى السلام

نشوء مرحلة “الاضطرابات” (1969-1994)

في عام 1921، تم تقسيم جزيرة أيرلندا، المكونة من 32 مقاطعة، بعد إقرار قانون حكومة أيرلندا (1920). فأنشأ التقسيم أيرلندا الشمالية (المقاطعات الشمالية الشرقية الست) التي لا تزال ضمن المملكة المتحدة قانونياً ودستورياً، فيما أصبحت المقاطعات الـ 26 في جنوب أيرلندا الدولة الأيرلندية الحرة بعد توقيع المعاهدة الأنجلو-أيرلندية، وأصبحت مؤخراً جمهورية أيرلندا في عام 1949 على أثر قانون جمهورية أيرلندا (1948).

منذ إنشاء دولة أيرلندا الشمالية، كان يشار إليها في بعض الأحيان بأنها “دولة بروتستانتية لشعب بروتستانتي”. فقد كان البريطانيون البروتستانت يشكلون أغلبية السكان، في حين شعرت الأقلية الكاثوليكية (القومية/الجمهورية الأيرلندية) بأنهم مواطنون من الدرجة الثانية. لقد عانوا من التمييز الهيكلي في الإسكان والوظائف، فضلاً عن التلاعب في تقسيم الدوائر الانتخابية. وكان السكان الكاثوليك ينظرون بريبة إلى قوة الشرطة ذات الغالبية البروتستانتية الساحقة، المدعوة شرطة ألستر الملكية، لاعتقادهم بأنها متواطئة مع المنظمات شبه العسكرية الموالية (قوة ألستر التطوعية/ جمعية الدفاع عن ألستر/المقاتلون من أجل حرية ألستر).

ثم ظهرت جمعية الحقوق المدنية في أيرلندا الشمالية في أواخر ستينيات القرن العشرين، وقامت بحملة للمطالبة بالحقوق المدنية والمساواة ثم أجرت أول مسيرة لها في أغسطس 1968 بمشاركة ما يناهز 2500 شخص. كما نظمت مسيرة أخرى في 5 أكتوبر 1968 حاولت شرطة ألستر الملكية تغيير مسارها. فاندلعت أعمال العنف وتعرض العديد من المتظاهرين للضرب بالهراوات على أيدي الشرطة. عند ذلك، ثار غضب السكان القوميين وبعض فئات السكان البروتستانت (بعضهم كان متورطاً مع جمعية الحقوق المدنية).

وتصاعدت التوترات في عام 1969. فقد كان الجيش الجمهوري الأيرلندي متورطاً منذ تأسيسه في عمليات مسلحة متفرقة ضد دولة أيرلندا الشمالية، من بينها حملة الحدود 1956-1962،[13] لكن القيادة أعلنت وقفاً تكتيكياً لإطلاق النار في عام 1962. وإذا بالجيش الجمهوري الأيرلندي المؤقت، الذي انشق عن الجيش الجمهوري الأيرلندي الرسمي، يبدأ حملته المسلحة عام 1969. وخلال هذه الفترة، وقعت أحداث رئيسية أطلقت شرارة مرحلة “الاضطرابات”، ومنها حرق الموالين لشارع بومباي الكاثوليكي في منطقة كلونارد في بلفاست (1969)، وإقرار الحكومة البريطانية لتدابير الاعتقال في عام 1971 عندما تم القبض على قرابة 340 شخصاً (معظمهم من الكاثوليك) للاشتباه في تورطهم مع الجيش الجمهوري الأيرلندي، والأحد الدامي في يناير 1972 عندما أردى الجنود البريطانيون ثلاثة عشر شخصاً بالرصاص في ديري في مسيرة مناهضة للاعتقال[14]. وهكذا بدأت الفترة العنيفة التي أصبحت تعرف باسم “الاضطرابات”، والتي خاض خلالها الجيش الجمهوري الأيرلندي المؤقت حملة طويلة ضد الجيش البريطاني. وفي الوقت نفسه، كانت القوات شبه العسكرية الموالية تخوض حملة عنيفة من أجل بقاء أيرلندا الشمالية جزءاً من المملكة المتحدة.

الجماعات المسلحة

الجيش الجمهوري الأيرلندي المؤقت

خاض الجيش الجمهوري الأيرلندي المؤقت حرباً طويلة مع الجيش البريطاني، سعى خلالها إلى الانسحاب البريطاني وقيام دولة أيرلندية سيادية موحدة مكونة من 32 مقاطعة. فالحركة الجمهورية، التي تألفت من الجيش الجمهوري الأيرلندي المؤقت وشين فين (الجناح السياسي المزعوم للجيش المذكور)، كانت تعتبر الصراع استعمارياً بطبيعته، حيث كانت بريطانيا تعدّ مستعمراً عدوانياً ينبغي أن يغادر أيرلندا حتى تقوم دولة أيرلندا الموحدة. ودعت الحركة إلى وقف إطلاق النار في عام 1994 ثم مرة أخرى في عام 1997، بعد خرق وقف إطلاق النار مؤقتاً.

جيش التحرير الوطني الأيرلندي

تم تشكيل جيش التحرير الوطني الأيرلندي في ديسمبر 1974، وكان عبارة عن منظمة جمهورية أيرلندية اشتراكية يُعتقد أنها الجناح العسكري للحزب الاشتراكي الجمهوري الأيرلندي. وعلى غرار الجيش الجمهوري الأيرلندي المؤقت، سعى جيش التحرير إلى فصل أيرلندا الشمالية عن المملكة المتحدة وإنشاء جمهورية اشتراكية تضم جميع المقاطعات الـ 32. وقد شن حملته بشكل رئيسي ضد الجيش البريطاني وشرطة ألستر الملكية. كما دعا إلى وقف إطلاق النار في أغسطس 1998.

القوات شبه العسكرية الموالية

شاركت في الصراع العنيف أيضاً المنظمات شبه العسكرية الموالية، بما فيها قوة ألستر التطوعية وجمعية الدفاع عن ألستر، سعياً إلى إبقاء أيرلندا الشمالية جزءاً من المملكة المتحدة. وقد تم تشكيلها[15] في عام 1966 وأعلنت وقف إطلاق النار في عام 1994.

تم تشكيل جمعية الدفاع عن ألستر في عام 1971 ودعت أيضاً إلى وقف إطلاق النار في عام 1994. وكانت تنضوي إليها المجموعة المدعوة المقاتلون من أجل حرية ألستر، التي نفذت هجمات تحت هذا الاسم للحؤول دون حظر جمعية الدفاع باعتبارها خارجة عن القانون. غير أن الحكومة البريطانية حظرتها باعتبارها منظمة إرهابية في عام 1973 وأصبحت جمعية الدفاع عن ألستر منظمة محظورة في عام 1992.

وقد انخرطت القوات شبه العسكرية الموالية في حملة مسلحة ضد الجمهوريين الأيرلنديين وأعلنت أن هدفها هو حماية مناطق البروتستانت الموالين والوحدويين، فضلاً عن حماية الاتحاد مع المملكة المتحدة.

الأحزاب السياسية

كان الحزب الأكثر تمثيلاً للعقيدة الوحدوية خلال مرحلة “الاضطرابات” هو حزب ألستر الوحدوي الذي ترأسه ديفيد تريمبل من 1995 إلى 2005 وكان يتبنى موقفاً وحدوياً معتدلاً. وضمت الأحزاب الوحدوية الأخرى، التي كانت أكثر ارتباطاً بالقوات شبه العسكرية الموالية، كلاً من الحزب الوحدوي التقدمي وحزب ألستر الديمقراطي، فيما اتخذ الحزب الديمقراطي الوحدوي بقيادة القس إيان بيزلي موقفاً مناهضاً للاتفاق.

أما الممثل الرئيسي للقومية الأيرلندية فكان حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي القومي الدستوري برئاسة جون هيوم في وقت اتفاق الجمعة العظيمة، بينما كان حزب شين فين يجسد الجمهوريانية الأيرلندية بقيادة جيري آدامز، ويعتقد أنه الجناح السياسي للجيش الجمهوري الأيرلندي المؤقت.

بالإضافة إلى ما سبق، تضمنت الأحزاب السياسية أيضاً حزب التحالف الذي كان غير منحاز وعابراً للطوائف وتحالف أيرلندا الشمالية للمرأة، فضلاً عن ائتلاف العمل. وفي غضون خمس سنوات من التوصل إلى اتفاق، كان الحزب الديمقراطي الوحدوي وشين فين قد تفوقا على منافسيهما الأكثر اعتدالاً ليصبحا أكبر ممثلين عن الوحدوية (للأول) والقومية (للثاني). ولا يزالان يحتفظان بهذه المكانة حتى اليوم.

العمل من أجل التوصل إلى اتفاق

كانت المحادثات السرية تجري بين الجيش الجمهوري الأيرلندي المؤقت والحكومتين البريطانية والأيرلندية منذ أواخر سبعينيات القرن العشرين. وجرت أيضاً مباحثات (تعرف بمحادثات هيوم-آدامز) بين شين فين وحزب العمال الاشتراكي الديمقراطي بين عامي 1988-1992، وقد سعى خلالها الحزب وزعيمه جون هيوم إلى إقناع الجيش المؤقت بإنهاء حملته المسلحة. وكانت حجة هيوم الرئيسية هي أن شعب أيرلندا هو المنقسم، وليست الأرض، وأن الوحدة الأيرلندية يجب أن تتحقق بموافقة الشعب ووحدته.

بحلول عام 1990، كانت الجهود المبذولة لتحقيق اتفاق سلام قد اكتسبت الزخم بين السكان الذين أنهكتهم الحرب، وذلك بدعم من جهات فاعلة خارجية أمثال الرئيس الأمريكي بيل كلينتون الذي لعب دوراً فاعلاً في عملية السلام الأيرلندية، وكذلك الاتحاد الأوروبي. والواقع أن الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة أدّيا دوراً حاسماً في أوقات الأزمات هذه، حيث عملت وفود الولايات المتحدة بدور المنسق والوسيط بين المواقف المتعارضة بشدة بين الوحدوية البريطانية والقومية الأيرلندية.

وفي عام 1994، أعلن الجيش الجمهوري الأيرلندي المؤقت وقف إطلاق النار، منهياً بذلك حملته المسلحة التي دامت نحو 30 عاماً. وفي غضون أشهر، أعلنت المنظمات شبه العسكرية الموالية أيضاً وقف إطلاق النار. غير أن وقف إطلاق النار الذي أعلنه الجيش انهار في عام 1996، ليستأنف مرة أخرى في عام 1997، ما مهد الطريق أمام جناحه السياسي المزعوم شين فين للمشاركة في المحادثات بين جميع الأحزاب. وهكذا تم التوصل إلى اتفاقية الجمعة العظيمة التاريخية في عام 1998 (المعروفة أيضاً باتفاقية بلفاست). وقد ترأس المحادثات في 1997/1998 السناتور الأمريكي جورج ج. ميتشل، ووصفها رئيس الوزراء البريطاني آنذاك توني بلير بأنها “واحدة من أكثر مفاوضات السلام استثنائية على الإطلاق”. وقال مقولته الشهيرة: أشعر بيد التاريخ على كتفنا.[16]

لقد اعتُبر الصراع الأيرلندي غير قابل للحل ومحصلته صفرية، إذ بدا من المستحيل التوفيق بين الجانبين. فقد كان الوحدويون مصممين تماماً على حماية مكانة أيرلندا الشمالية داخل المملكة المتحدة، بينما كان القوميون الأيرلنديون مصممين بالقدر نفسه على نصرة قضية الوحدة الأيرلندية. وإلى جانب القضية الأساسية المتعلقة بالهوية، كان هناك عدد من العقبات على طريق الاتفاق، بما في ذلك: (1) مطالب الوحدويين بنزع سلاح الجيش الجمهوري الأيرلندي المؤقت؛ و(2) المطالب القومية بنزع السلاح (مثل ثكنات الجيش البريطاني ونقاط التفتيش والحدود المشددة مع الجنوب)؛ و3) المعارضة الوحدوية للإفراج المبكر عن السجناء شبه العسكريين،[17] و4) القضايا الإجرائية المتعلقة بكيفية عمل مؤسسات تقاسم السلطة الداخلية في أيرلندا الشمالية.[18]

وحتى اللحظة الأخيرة، بدا من المستحيل عملياً التوصل إلى اتفاق يكون مقبولاً لكلا التقليدين. ولكن أجريت مفاوضات مكثفة بين الوحدويين والقوميين للتوصل إلى ما هو مقبول وقابل للتحقيق. وفي الوقت نفسه، كان حزب ألستر الوحدوي يتعرض للضغط من الحزب الديمقراطي الوحدوي الأكثر “تشدداً” الذي بقي معارضاً للاتفاق ولشمل شين فين في أي سلام.

ولكن تم فعلياً التوصل إلى اتفاق، وتُبين التجربة أن المفاوضات التي تشمل جميع الأطراف في صراع معين مرجحة أن تفضي إلى اتفاق مستدام ودائم، أكثر من اتفاق يستبعد الأطراف الفاعلة الرئيسية. في ذلك الوقت، كانت إحدى نقاط الخلاف الرئيسية تدور حول ما إذا كان ينبغي قبول أي طرف في المحادثات فيما العنف مستمر (وخصوصاً شين فين).

والجدير بالذكر أن الاتفاق قد أقر في استفتاء شعبي (1998) في أيرلندا الشمالية، حيث صوت 71.1٪ لصالحه. وفي اليوم نفسه، تم إجراء استفتاء في جنوب أيرلندا على إزالة المادتين الثانية والثالثة من الدستور الأيرلندي، واللتين تنصان على الحق بأراضي أيرلندا الشمالية، حيث صوت 94.4٪ لصالحه.

وعزز الاستفتاءان اللذان أجريا في جزأي أيرلندا شرعية ومتانة الاتفاق والمؤسسات الناتجة عنه. وتم الاستشهاد بهذه الأصوات كدليل على أن شعب أيرلندا يدعم هذا الاتفاق، لا سيما في مواجهة العنف المستمر من الجماعات الجمهورية الأيرلندية “المنشقة”.[19] فالهدف الرئيسي للاتفاق هو إنهاء العنف وإتاحة المجال أمام تحقيق التطلعات السياسية من خلال الوسائل السلمية والمؤسسية. وفي حين أن الصراع السياسي مستمر، إلا أنه غير عنيف بشكل أساسي.

2. دور المؤسسات المنشأة بموجب اتفاق عام 1998

إنشاء مؤسسات أيرلندا الشمالية

استند اتفاق عام 1998 إلى نهج ثلاثي المكونات دعا إليه القومي الأيرلندي وزعيم حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي جون هيوم منذ سبعينيات القرن العشرين.

يقوم المكون الأول على إنشاء مؤسسات لتقاسم السلطة في أيرلندا الشمالية. وقد استندت ترتيبات تقاسم السلطة إلى المبادئ الرئيسية التالية: (1) التناسبية (التمثيل النسبي)، و(2) المساواة الثقافية للتقليدين الرئيسيين الوحدوي والقومي، و(3) الموافقة من كل أطياف المجتمع وحقوق النقض المتبادلة، و(4) المساواة في المكانة والتقدير، و(5) الاحترام المتبادل. كانت هذه مبادئ أساسية لمجتمع خارج من الصراع ويعاني من انعدام ثقة عميق بالمجتمع “الآخر”.

تألفت جمعية تقاسم السلطة (جمعية ستورمونت) من الأحزاب السياسية الرئيسية للعقيدة الوحدوية (حزب ألستر الوحدوي والحزب الديمقراطي الوحدوي) والقومية (حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي وشين فين) بالإضافة إلى أحزاب “أخرى” بما فيها حزب التحالف الوسطي والتحالف النسائي في أيرلندا الشمالية والحزب الوحدوي في المملكة المتحدة والحزب الوحدوي التقدمي. وتقرّر انتخاب أعضاء الجمعية على أساس التمثيل النسبي الذي كان يعتبر أنسب آلية لضمان تناسبية التمثيل في مجتمع منقسم.

يتوجب على أعضاء الجمعية تصنيف خلفيتهم الطائفية على أنها وحدوية أو قومية أو “أخرى” نظراً لحقيقة أن القرارات الرئيسية تتطلب موافقة موازية (أغلبية متوازنة من القوميين والوحدويين) أو أغلبية مرجحة. مع ذلك، جادل النقاد بأن هذا التصنيف “عزز الانقسامات السياسية الطائفية وأنه لم يسهل المشاركة الشعبية والمحلية الكافية”.[20] وقد أدى التصنيف الطائفي إلى مزايدات عرقية داخل التكتل الواحد، مع سعي الأحزاب إلى إظهار أنها أقوى مدافع عن مصالحها الطائفية، ما دفع النقاد إلى القول إن النموذج التوافقي يعزز في الواقع الخلافات.

كما أنشئت سلطة تنفيذية تتمتع بسلطات تشريعية على أساس مشترك بين الطوائف، حيث يتم تعيين الوزراء في السلطة التنفيذية داخل الجمعية وفق طريقة هوندت. وهذا يعني أن المناصب تخصَّص على أساس حصة الحزب من الأصوات، ما يسمح بتوزيع الوزارات بقدر أكبر من التناسبية.

يعتبر مكتب الوزير الأول ونائب الوزير الأول متساوياً من الناحيتين القانونية والعملية. وقد تم تعديل إجراءات تعيين الوزير الأول ونائبه في اتفاقية سانت أندروز لعام 2006 بحيث بات يتم اختيار الوزير الأول من بين أعضاء أكبر حزب في أكبر كتلة طائفية (الوحدوية أو القومية) فيما يُختار نائب الوزير الأول من أكبر حزب في ثاني أكبر كتلة طائفية. وفي وقت إبرام اتفاق الجمعة العظيمة، كان للمكانة المتساوية في منصبي الوزير الأول ونائبه أهمية عملية ورمزية. ولكن على الرغم من المكتب المشترك، بقيت الوحدوية والقومية فعلياً في معركة مستمرة على منصب الوزير الأول. ولا يزال السباق على منصب الوزير الأول يهيمن على الانتخابات. وقد جادل منتقدو النظام (دعاة الاندماج على وجه الخصوص) بأن هذا الأمر فاقم الانقسام في المجتمع الأيرلندي الشمالي، ولم يقدم أي حافز للاعتدال أو التصويت بين المجتمعات المختلفة.[21]

في المقابل، أنشأ المكون الثاني هيئات شمالية جنوبية، هي المجلس الوزاري للشمال والجنوب وهيئات التنفيذ بين الشمال والجنوب، لدعم التعاون بين شمال وجنوب أيرلندا. أما مجالات التعاون الرئيسية الستة فهي: الزراعة والتعليم والبيئة والصحة والسياحة والنقل.

بالنسبة للمكون الثالث، فقد تناول العلاقات الشرقية الغربية بين أيرلندا وبريطانيا، وأنشأ المؤتمر الحكومي البريطاني الأيرلندي والمجلس البريطاني الأيرلندي، الذي يدعم التعاون بين المملكة المتحدة وأيرلندا. وتتمثل أهداف المجلس في زيادة تعزيز العلاقات الإيجابية والعملية بين سكان الجزر وتوفير منتدى للتشاور والتعاون.[22]

مبدأ القبول وتبعاته على مستقبل أيرلندا الشمالية

تمحور الصراع في أيرلندا الشمالية حول المسألة الدستورية التي لم تحلّ بعد – وتحديداً ما إذا كان ينبغي لأيرلندا الشمالية أن تبقى جزءاً من المملكة المتحدة أو أن تصبح جزءاً من دولة أيرلندية متحدة. والأهم من ذلك هو أن اتفاق الجمعة العظيمة كرّس حق مواطني أيرلندا الشمالية في الاعتراف بهم كبريطانيين أو أيرلنديين أو كليهما وفي امتلاك جواز سفر بريطاني أو أيرلندي أو كليهما.

وتنبع هذه الحقوق من المبدأ الجوهري للاتفاق، وهو الموافقة. فهو ينص على أن شعب الجزيرة هو وحده الذي يقرر مستقبله الدستوري من خلال التصويت. والوحدة الأيرلندية ممكنة إذا صوتت غالبية الناس في أيرلندا الشمالية لصالحها. لذلك، وفي حين لا تزال أيرلندا الشمالية جزءاً من المملكة المتحدة في المستقبل المنظور، إلا أن المسألة الدستورية ما زالت مفتوحة، على أن يتم البت فيها من خلال تصويت مستقبلي (يعرف أيضاً باسم استطلاع الحدود).[23]

مع ذلك، ليس مستغرباً أن المجتمعات القومية والوحدوية فسرت الاتفاق بأوجه مختلفة. فقد اعتبره الوحدويون بمثابة تثبيت محكم للوحدوية. بينما رأى القوميون أنها خارطة طريق لأيرلندا موحدة. وهنا تكمن قوته. إذ سمح الاتفاق لكل طرف برؤية طريق للمضي قدماً بتطلعاته السياسية، ما جعل الاتفاق ممكناً بين مواقف لطالما كانت معادية ولا يمكن التوفيق بينها. وهذا ما أشير إليه بتسمية “الغموض البنّاء”.

ولكن الغموض البناء الذي أفسح المجال أمام الاتفاق أصبح مصدراً للعداء خلال مرحلة التنفيذ، حيث انحلت الجمعية مراراً وتكراراً بسبب الأزمات المستمرة. وانهارت المؤسسات في عام 2000 بسبب مطالب الوحدويين بنزع سلاح الجيش الجمهوري الأيرلندي المؤقت،[24] ومرة أخرى في الفترة 2002-2007 بسبب اكتشاف حلقة تجسس مزعومة للجيش[25] في ستورمونت. ثم تم حل المؤسسات بين عامي 2017 و2020 بسبب نظام حوافز التسخين بالموارد المتجددة.[26] وفي وقت كتابة هذا التقرير، تم تعليق المؤسسات حالياً. والواقع أنه تم تعليق العمل بجمعية أيرلندا الشمالية لمدة 40٪ من فترة وجودها.

بالتالي، حلّت العلاقات الجيدة في المرتبة الثانية بعد الاستقرار السياسي والحكومي؛ وهو ما وصفه دنكان مورو بأنه “احتواء مدار بالأزمات”.[27] ونوعاً ما، لم يكن التوصل إلى اتفاق سوى بداية العملية. وكما قال السناتور الأمريكي جورج ميتشل، الذي ترأس محادثات السلام: “إنه سلام هش يمكن أن ينتهي في أي وقت، وثمة العديد من القرارات الحاسمة التي لم يتم اتخاذها بعد”.[28] ومن الواضح أن الثقة بين الأحزاب في الجمعية غائبة إلى حد كبير. ولذلك، اتسمت السنوات الأولى من التنفيذ بطابع التوقف والبدء للجمعية.

التغييرات في الشرطة في أيرلندا الشمالية

حدث عنصر هام من عناصر التغيير المؤسسي في شرطة أيرلندا الشمالية. ومن الصعب تصور التقدم الذي تم إحرازه في المجتمع الأيرلندي الشمالي من دون هذه التغييرات. فقد كان المجتمع القومي ينظر إلى شرطة ألستر الملكية ذات الأغلبية البروتستانتية بريبة (في أحسن الأحوال)، فيما فشلت الشرطة في جذب العديد من المجندين الكاثوليك. ولمعالجة هذه المسألة، صدر في أيلول/سبتمبر 1999 تقرير بعنوان “بداية جديدة: الشرطة في أيرلندا الشمالية” (والمعروف باسم “تقرير باتن” تيمناً باسم مُعدِّه كريستوفر باتن).

قدم التقرير 175 توصية، وأبرز ما جاء فيه هو: 1) قسَم جديد يعبّر عن التزام صريح بصون حقوق الإنسان؛ 2) مدونة جديدة للأخلاقيات؛ 3) وجوب تدريب جميع عناصر الشرطة العسكريين والمدنيين على المبادئ والمعايير الأساسية لحقوق الإنسان وتأثيراتها العملية على عمل الشرطة؛ 4) وجوب رصد أداء الشرطة في مجال حقوق الإنسان من قبل مجلس الشرطة؛ 5) إنشاء مجلس شرطة جديد كلياً؛ 6) نقل مسؤوليات الشرطة إلى السلطة التنفيذية لأيرلندا الشمالية في أسرع وقت ممكن؛ 7) اتخاذ الشرطة خطوات لتحسين شفافيتها؛ 8) ضرورة أن يكون أمين مظالم الشرطة مؤسسة هامة في حكم أيرلندا الشمالية، وأن ينظر إليه على أنه كذلك؛ 9) وجوب أن تكون أعمال الشرطة مع المجتمع هي الوظيفة الأساسية للشرطة؛ 10) وجوب أن يكون لمراكز الشرطة التي يتم بناؤها في المرحلة المقبلة مظهر بناءٍ عادي قدر الإمكان؛ 11) الاستمرار في استبدال سيارات الشرطة بمركبات للدورية بدلاً من المركبات البرية المدرعة.

كان تقرير باتن مهماً في التحرك نحو تطبيع الشرطة في أيرلندا الشمالية ونزع السلاح أيضاً. في تشرين الثاني/نوفمبر 2001، تحولت شرطة ألستر الملكية إلى شرطة أيرلندا الشمالية بشعارات جديدة وزي رسمي جديد تبدّل لونه من الأسود إلى الأخضر.

والأهم من ذلك هو اعتماد التمييز الإيجابي في تعيينات الشرطة، بحيث تقرر تجنيد عناصر الشرطة على أساس المناصفة، ما يعني أن 50٪ من المجندين يكونون من البروتستانت و50٪ من الكاثوليك. والنتيجة، شكل الكاثوليك 30٪ من شرطة أيرلندا الشمالية بحلول عام 2011، علماً بأن نسبتهم اقتصرت على 7% في عام 1996. كما أدت التغييرات التي أحدثها تقرير باتن إلى اتخاذ شين فين خطوة تاريخية بأخذ أماكنهم في مجالس الشرطة. ولكن منذ انتهاء التوظيف بالمناصفة في عام 2011،[29] انخفض عدد المجندين الكاثوليك مرة أخرى، ما أثار جدلاً حول ما إذا كان يجب إعادة اعتماد المناصفة، وهو أمر يعارضه الوحدويون. وفي عام 2021، بلغت نسبة المجندين الكاثوليك 24٪ من إجمالي عناصر الشرطة.

وتطرق تدبير إضافي إلى موضوع “المسيرات”. فطوال تسعينيات القرن العشرين، شكلت المسيرات المصدر الرئيسي للعنف بين الطوائف في أيرلندا الشمالية، ولا سيما مسيرات جماعة “أورنج أوردر” (البروتستانت)، وغالباً ما أدت إلى اشتباكات عنيفة في مناطق التماس مع مرور المسيرات عبر منطقة ذات أكثرية كاثوليكية. وعادةً ما كانت المسيرات تحيي ذكرى أحداث تاريخية، أبرزها انتصار البروتستانت البريطانيين في معركة بوين في 12 تموز/يوليو من كل عام.[30] وتمر المسيرة الرئيسية التي تنظمها جماعة “أورانج أوردر” في 12 تموز/يوليو بمنطقة أردوين الكاثوليكية في شمال بلفاست، حيث تندلع أعمال الشغب كل 12 تموز/يوليو. وعندما اشتبك المتظاهرون القوميون الكاثوليك مع متظاهري الجماعة، انتشر عناصر شرطة مكافحة الشغب واستُخدمت خراطيم المياه ضد المتظاهرين وأطلق الرصاص البلاستيكي. وقد كان لأفلام وصور المتظاهرين الذين جرّتهم الشرطة بعيداً عن الطريق تأثير سلبي على جهود المصالحة، وخصوصاً لدى المجتمع القومي الكاثوليكي الذي كان بالفعل معادياً للشرطة.

في عام 1997، تم إنشاء لجنة للمسيرات في أيرلندا الشمالية، وكانت عبارة عن هيئة مستقلة تتمتع بصلاحيات وضع قيود على المسيرات المثيرة للجدل. واعتبر إنشاء لجنة المسيرات خطوة مهمة في التخفيف من حدة قضية خلافية.

فضلاً عن ذلك، تم نقل مسؤوليات الشرطة والعدالة من وستمنستر إلى أيرلندا الشمالية في عام 2010، بعد ثلاث سنوات على انتهاء الدوريات الراجلة للجيش البريطاني.[31] وكان نقل هذه السلطات إلى جمعية أيرلندا الشمالية خطوة مهمة في العملية السياسية. وقد أدت نهاية الدوريات الراجلة للجيش البريطاني، وإنشاء لجنة المسيرات، والتغييرات في الشرطة، ونقل صلاحية الشرطة والعدالة، إلى التأثير بشكل كبير على المجتمع الأيرلندي الشمالي وساعدت مجتمعة في حرفه بعيداً عن العنف.

تكريس المساواة في أيرلندا الشمالية

أسفرت المحادثات بين الأحزاب كافة، والتي أدت إلى اتفاق الجمعة العظيمة، عن القسم 75 من قانون أيرلندا الشمالية (1998). وكان المقصد من القانون إحداث تحولات جوهرية في ما يتعلق بالمساواة، وذلك بهدف تغيير ممارسات الحكومة والسلطات العامة بما يضمن أن يكون تكافؤ الفرص والعلاقات الجيدة مسألة محورية في صنع السياسات ومراجعة السياسات وتقديم الخدمات (لجنة المساواة، نيسان/أبريل 2010). وتوجب على السلطات العامة أن تعزز تكافؤ الفرص بين فئات المساواة التسع وهي: 1) الأشخاص الذين ينتمون إلى معتقدات دينية مختلفة؛ 2) الآراء السياسية المختلفة؛ 3) الجماعات العرقية؛ 4) العمر؛ 5) الحالة الاجتماعية؛ 6) التوجه الجنسي؛ 7) الرجال والنساء بشكل عام؛ 8) الأشخاص ذوو الإعاقة أو غير المعوقين؛ 9) الأشخاص الذين لديهم أو ليس لديهم معالون.

وقد أدى تكريس المساواة في القانون إلى بداية عصر جديد بالنسبة لأيرلندا الشمالية، لا سيما بالنظر إلى تاريخها الطويل من التمييز في الإسكان والتوظيف ضد السكان القوميين الكاثوليك. وكان تكريس المساواة شرطاً مسبقاً حيوياً لأي تقدم يحرز في المصالحة، إذ تم القضاء إلى حد كبير على التمييز الهيكلي الذي كان مدمراً جداً في المجتمع الأيرلندي الشمالي؛ وكانت هذه الخطوة ضرورية لأيرلندا الشمالية مع بدء انتقالها من الماضي. فبدون المساواة، كانت محاولات المصالحة لتبقى غير مثمرة.

اليوم، أصبحت أيرلندا الشمالية مجتمعاً أكثر مساواة وثقة يتسم بمقدار أكبر من القبول والتسامح تجاه الهويات الطائفية المختلفة. فالأفراد يشعرون بأمان أكبر في التعبير عن هوياتهم الثقافية. وبالفعل، أظهرت الدراسات الاستقصائية مثل “استقصاء الحياة والأوقات في أيرلندا الشمالية” أن المزيد من الناس يفضلون الآن العمل في مكان مختلط الأديان، ويشعر المزيد من الناس أنه يمكنهم أن يكونوا منفتحين بشأن هويتهم الثقافية في مكان عملهم، فيما انخفض عدد الأشخاص الذين يرغبون في العيش في منطقة متجانسة دينياً بنسبة 50٪ تقريباً، وأفاد 94٪ من الناس أنهم يشعرون بالأمان حيث يعيشون، كما تنامى الدعم للتعليم المتكامل.[32] وبشكل عام، تشير المؤشرات إلى مجتمع أكثر اعتدالاً.

3. التقدم الإيجابي والتحديات المتبقية في عملية المصالحة

في حين أن اتفاق عام 1998 والمؤسسات التي تمخضت عنه قد جلبت سلاماً نسبياً إلى أيرلندا الشمالية (وهو ما لا ينبغي الاستهانة بضخامته)، إلا أن العملية السياسية لم تترافق مع عملية موازية للمصالحة المجدية.

ومن المفهوم أن المصالحة كانت أقل أهمية من الأولوية الأكثر إلحاحاً المتمثلة في إنهاء الصراع العنيف وعمليات القتل. مع ذلك، ربما ثبت أنه من الأنسب دمج عملية المصالحة في المساعي، بدلاً من التعامل معها كمسألة تكميلية يُبتّ فيها في مرحلة لاحقة، من أجل إنشاء مجتمع قائم حقاً على الشراكة. ومع أن الاتفاق التزم بـ”تعزيز الاتفاق والمصالحة” من حيث المبدأ، إلا أنه كان من الممكن، من الناحية العملية، وضع استراتيجية أكثر تطوراً لإرساء علاقات جيدة جنباً إلى جنب مع العملية السياسية. وكما قال البروفيسور فيرغال كوكرين: “الحقيقة المزعجة هي أنه في ما يتجاوز مستوى الخطاب العام، لم يتواصل اتفاق الجمعة العظيمة بشكل كاف مع المجتمعات بطريقة تساعد على تشجيع الاندماج أو المصالحة”.[33]

التقدم الإيجابي

جرت محاولات على المستوى الحكومي لمعالجة القضايا المثيرة للانقسام الثقافي في المجتمع الأيرلندي الشمالي من خلال اتفاقيات مختلفة تم التوصل إليها منذ اتفاق الجمعة العظيمة لعام 1998. غير أن هذه الاتفاقيات لم تغير الطبيعة الأساسية للمؤسسات، أو النهج الثلاثي الذي استند إليه اتفاق الجمعة العظيمة، بل سعت بدلاً من ذلك إلى إعادة تشكيل الجمعية بعد فترات الانهيار ومعالجة المسائل الصعبة الجارية، ومن بينها تفعيل المؤسسات وقبول الشرطة والهوية والحقوق والتعبير الثقافي والإرث. وقد نص اتفاق “عقد جديد، نهج جديد” (2020) على أن المصالحة ستكون محورية في نهج السلطة التنفيذية مع التركيز على بناء مجتمع موحد قائم على مبادئ المساواة والاحترام المتبادل.

قضايا الثقافة والهوية

في عام 2016، تم إنشاء لجنة الأعلام والهوية والثقافة والتقاليد بخمسة عشر عضواً.[34] وكان تركيزها على “الأعلام والشعارات، وعند الاقتضاء، على القضايا الأوسع المتعلقة بالهوية والثقافة والتقاليد”، وهدفها “تحقيق أقصى قدر من التوافق بشأن تطبيقها”.[35] ومن النتائج المهمة التي توصلت إليها اللجنة، بعد مشاورات مجتمعية واسعة النطاق، أن الناجين والضحايا في النزاع شعروا بأنهم لا يرغبون في المشاركة في قضايا الأعلام والهوية والثقافة طالما أن احتياجاتهم كناجين وضحايا لم تلبَّ.

وخلصت اللجنة أيضاً إلى أن الأذى قد ينجم عن ممارسات إحياء وتخليد الذكرى، التي ينظر إليها على أنها جزء مهم من الثقافة والهوية في كل مجتمع في أيرلندا الشمالية. وفي حين بحثت اللجنة في عدد من الجوانب المتعلقة بإحياء الذكرى، فإنها فشلت في التوصل إلى اتفاق بشأن التوصيات.

في الواقع، استلزمت جهود المصالحة الإضافية تدخلاً دولياً كبيراً، لا سيما من خلال برامج السلام التابعة للاتحاد الأوروبي. ونُفذت أيضاً على مستوى المجتمعات الطائفية عمليات ومبادرات محلية ممولة بالدرجة الكبرى من جمعية أيرلندا الشمالية (مثل المخططات المحلية المشتركة بين الطوائف). وقد أجريت هذه الأنشطة بهدف تحسين العلاقات المجتمعية، وتمت بمعظمها من قبل جماعات تطوعية ومنظمات دينية ومنظمات غير حكومية ومجالس وهيئات أخرى.

التقدم من خلال استثمارات الاتحاد الأوروبي في أيرلندا الشمالية

أدى الاتحاد الأوروبي دوراً حيوياً في عملية السلام الأيرلندية بفضل المساعدات المالية التي قدمها من خلال برامج السلام المعمول بها منذ عام 1989. وكان الهدف الرئيسي لهذه البرامج هو التوفيق بين المجتمعات المحلية والمساهمة في إحلال السلام. وبين عامَي 1995 و2013، ساهمت برامج السلام الثلاثة للاتحاد الأوروبي بمبلغ 1.3 مليار يورو لأيرلندا الشمالية. ولما كانت عملية السلام الأيرلندية تتم من أعلى الهرم إلى الأسفل، كان أحد الإنجازات الرئيسية للبرامج الممولة من الاتحاد الأوروبي هو تسهيل الحوار وصنع القرار على المستوى الشعبي بين الطوائف.

وتشمل المشاريع الرئيسية التي مولتها أموال السلام ما يلي: (1) مشاريع لدعم الضحايا والناجين؛ و(2) الشباب والشركات الصغيرة والمتوسطة الحجم؛ و(3) مشاريع البنية التحتية والتجديد الحضري؛ و(4) مشاريع لدعم المهاجرين والاحتفال بالتنوع العرقي للمجتمع ككل.[36]

وقد توصلت تقارير مثل تقرير “مستقبل مشترك” (2005)[37] إلى أن المجتمعات المحلية في أيرلندا الشمالية تعيش حياة منفصلة ولكنها متساوية، وقد أسهم تمويل الاتحاد الأوروبي من خلال برامج السلام إسهاماً كبيراً في الجهود الرامية إلى تعزيز المشاركة والمصالحة بين الطوائف والحد من العيش الموازي. وتشمل المجالات المستهدفة: (1) التعامل مع السجناء السابقين من كلا جانبَي الصدع، و(2) المشاريع التي تعنى بالشرطة؛ و(3) النهوض بحقوق الإنسان؛ و(4) التجديد الاقتصادي؛ و(5) الاتصالات عبر الحدود؛ و(6) الحد من التوترات في مناطق التماس؛ و(7) خلق مساحات محايدة في الفنون والترفيه والتنمية التجارية.

ومن الأمثلة البارزة على الاستثمار في المساحات المحايدة حي تيتانيك ومنطقة التسوق فيكتوريا سكوير في بلفاست.[38] لقد كان تطوير هذه المناطق مهماً لأيرلندا الشمالية، التي شهدت نمواً في تجارتها السياحية منذ عملية السلام. فقد عززت السياحة بشكل كبير اقتصاد البلاد، وأصبحت الجولات السياسية لسيارات الأجرة السوداء في غرب بلفاست ومتحف تيتانيك مناطق جذب سياحي رائدة عالمياً، ما كان له تأثير إيجابي على المجتمعات المحلية. وأسهمت هذه البرامج في تحقيق الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي داخل أيرلندا الشمالية، وفي تعزيز التماسك بين المجتمعات المحلية، من خلال المبادرات والمساحات المشتركة التي مولتها.

المبادرات المجتمعية ودور المنظمات غير الحكومية

أدت المبادرات المجتمعية دوراً مركزياً في تعزيز المصالحة في أيرلندا الشمالية، سيما وأنها تكتسب أهمية خاصة في أوقات الأزمة. فقد قدمت حكومة أيرلندا الشمالية أموالاً كل عام لخطط مصممة لتحسين العلاقات المجتمعية، بما فيها: (1) المخيمات الصيفية للأطفال، و(2) خطط التعليم المشترك في المدارس، و(3) البرامج المشتركة بين المجتمعات المحلية للبالغين، و(4) المرافق والمباني المجتمعية المشتركة.

وتقدم جمعية أيرلندا الشمالية أيضاً أموالاً للمجالس المحلية لتسهيل المشاريع والمخططات في مناطقها المحلية بهدف تحسين العلاقات المجتمعية. مع ذلك، كشف “استقصاء الحياة والأوقات في أيرلندا الشمالية” (2021) أن 46٪ فقط ممن شملهم الاستقصاء كانوا على دراية بأي من هذه المشاريع أو المخططات المشتركة بين الطوائف في السنوات الخمس السابقة، ما يدل على أن المواطنين بحاجة إلى مزيد من التوعية للاستفادة منها بالكامل.

وتشمل أبرز الأمثلة عن عمل المنظمات غير الحكومية:

  • لجنة أوبسال، التي اضطلعت بمبادرات مشتركة بين المجتمعات المحلية وأدخلت أيضاً مفاهيم أصبحت مركزية في العملية السياسية، مثل المساواة في المكانة.
  • الحركة النقابية، التي نظّمت مسيرات طوال تسعينيات القرن العشرين ويمكن القول إنها ساعدت في رسم أجواء التعاون بين المجتمعات ورفض العنف.
  • الحركة النسائية، التي وجدت تعبيراً لها بنهاية المطاف في التحالف النسائي. وحتى قبل تشكيل الحزب، بذلت الحركة النسائية جهوداً كبيرة نحو بناء السلام على مستوى الطوائف.

ثمة أيضاً مجموعات بارزة مثل مجتمع كوريميلا الذي تأسس عام 1965 ويسهّل التقاء أعضاء المجتمعات المتعارضة لإجراء محادثات صعبة ودعم إحداها الأخرى. كما أنه ييسّر المناقشات حول التاريخ والهوية، ليساهم بذلك في بناء العلاقات الإيجابية والتفاهم والتعاطف.[39]

ولكن على الرغم من هذه الجهود، لا تزال أيرلندا الشمالية مجتمعاً منقسماً يفتقر إلى التماسك، ولا تزال الهوية الأيرلندية الشمالية المشتركة بعيدة المنال.

التحديات المتبقية أمام المصالحة

التحدي الهائل في التعامل مع الماضي

لقد ثبت أن التعامل مع الماضي هو أحد أهم التحديات التي تواجه المصالحة في أيرلندا الشمالية. ولكن اتفاق الجمعة العظيمة لم يتضمن تفاصيل تذكر عن كيفية التعامل مع الماضي، بل اعتبرها مسألة تُعالج في مرحلة لاحقة من العملية. ونتيجة لذلك، لم تنفك تظهر بين الحين والآخر وتسبب الانقسام والخلاف.

حتى الآن، لا توجد رواية متفق عليها بشأن النزاع أو أسبابه، ومن المستبعد أن تتبلور مثل هذه الرواية على الإطلاق. فلكل مجتمع روايته الخاصة عن الأحداث الماضية. وبينما تركز سردية المجتمع الوحدوي على الخسارة (بما في ذلك الخسارة الرمزية) وتآكل هويته وثقافته البريطانية، تؤكد السردية القومية على تحقيق المساواة وتكافؤ الاحترام. والواقع أن قسماً من الوحدويين والموالين يجادل بأنه ما كان يجدر بالوحدويين بتاتاً قبول اتفاق الجمعة العظمية، ويعتبر العملية مذّاك استرضاءً للقومية. وما زال التاريخ يُستخدم في النزاعات السياسية والثقافية الحالية.

وبخلاف جنوب أفريقيا، لم تتبنَّ أيرلندا الشمالية قط آلية رسمية للتعامل مع الماضي، على الرغم من اقتراح إنشاء لجنة للحقيقة والمصالحة (ولكن لم يتم إنشاؤها قط)، مع العلم بأن استطلاع الانتخابات العامة في أيرلندا الشمالية، الذي أجراه مجلس الأبحاث الاقتصادية والاجتماعية في عام 2019، كشف عن تبدّل في التأييد للجنة الحقيقة والمصالحة في أيرلندا الشمالية، بحيث أيّدها 45.7٪ ممن شملهم الاستطلاع، ما يعكس ارتفاعاً عن نسبة 31.5٪ المسجلة في عام 2017.[40]

دور القيادة السياسية في المصالحة – هل هو غائب؟

شكلت الجهات السياسية جبهة موحدة أمام التهديدات الخارجية الكبيرة التي واجهتها عملية السلام، مثل الهجمات العنيفة التي شنّها الجمهوريون المنشقون على قوات الأمن. غير أنها لم تُبدِ التضامن نفسه يبن مختلف أطياف المجتمع إزاء القضايا الثقافية. فعلى الساحة الثقافية، ركّز القادة السياسيون بشكل رئيسي على مصالحهم العرقية والقومية. وفي عام 2012، أجريت تعديلات بشأن رفع علم الاتحاد، حيث تم خفض عدد الأيام التي يرفرف فيها العلم على المباني العامة إلى أيام محددة بالتماشي مع البروتوكول المتبع على سائر أراضي المملكة المتحدة، غير أن الأمر أثار حفيظة الوحدويين واندلعت الاحتجاجات. وفي مراحل مختلفة من العملية، ادعى الموالون والوحدويون أن هويتهم البريطانية مقوضة في أيرلندا الشمالية، فيما يعتقد بعض الموالين أن هذا هو التصميم النهائي للعملية السياسية القائمة منذ اتفاق الجمعة العظيمة.

وبالفعل فإن تقارير مراقبة السلام التي درست احتجاجات الموالين بشأن مسألة العلَم، أشارت إلى حقيقة أن القيادة الوحدوية ركزت على التضامن الطائفي، مما أدى إلى “إعادة تطييف السياسة”.[41] وخلصت التقارير أيضاً إلى أن التركيز المستمر على القضايا الرمزية والمثيرة للانقسام داخل الجمعية زاد من حالة الاستقطاب. وبعد عقد من الزمن، أثارت احتجاجات وتجمعات الموالين ضد بروتوكول خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي رد فعل مماثل من القيادة الوحدوية التي ركزت على المصالح والتضامن داخل الطائفة الواحدة.

صمود جدران السلام

تعدّ جدران السلام أبرز تذكير مرئي بأن أيرلندا الشمالية لا تزال مجتمعاً منقسماً. فهذه الهياكل (أو الحواجز) المادية المبنية بشكل أساسي من الطوب أو الحديد أو الفولاذ تمتد على أميال بين المناطق السكنية، معظمها في بلفاست وديري وبورتاداون. والهدف من خطوط الفصل المتعرجة هذه هو فصل المجتمع القومي عن المجتمع الوحدوي؛ وبعضها دائم بينما البعض الآخر مؤقت. وقد تم بناء أولها في بداية “الاضطرابات” في عام 1969 بهدف “تقليل فرص العنف والفوضى الطائفية”.[42]

في عام 2022، كانت أيرلندا الشمالية لا تزال تحتوي على أكثر من 60 جدار سلام، أي أكثر من العدد الموجود وقت الاتفاقية عام 1998، حتى أن بعض الجدران اليوم أعلى وأطول مما كانت عليه في عام 1998. وقد أظهرت الأبحاث أن جدران السلام الدائمة تردع الاستثمار الاقتصادي.[43] فبالإضافة إلى تأثيرها الضار على الاتصال الجسدي بين المجتمعات، تؤثر أيضاً على العلاقات في ما بينها. وقد دعت شخصيات سياسية بارزة مثل الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما إلى إزالتها، بحجة أن هذا ضروري للمستقبل السياسي لأيرلندا الشمالية. لكن الأبحاث أظهرت أيضاً أن العديد من السكان الذين يعيشون بجانب الجدران لا يريدون إزالتها.[44] فهي عززت شعورهم بالأمان من خلال توفير حاجز مادي بين المجتمعات في أوقات الاحتجاجات العنيفة وأعمال الشغب.[45]

مجتمع منقسم: فصل الإسكان والتعليم

كثيرٌ من الالتزامات الواردة في اتفاق الجمعة العظيمة لعام 1988 لم يطبَّق، بما في ذلك التعليم المدمج والمناطق السكنية المختلطة. وفي حين توجد بعض المدارس المختلطة في أيرلندا الشمالية (من جميع الأديان)، لا يزال التعليم منفصلاً بشكل كبير بين المدارس الكاثوليكية والبروتستانتية. والتذكير الصارخ بذلك هو أن نسبة 7٪ فقط من الأطفال يرتادون مدرسة مختلطة.[46] مع ذلك، أظهرت استطلاعات الرأي باستمرار تأييد التعليم المدمج، حيث إن حوالي 70٪ من السكان يؤيدون بالعادة المدارس المختلطة.[47]

غير أن واحدة من أبرز المشاكل بهذا الشأن هي عدم توافر المدارس المختلطة، حيث تفتقر العديد من المناطق ببساطة إلى هذا الخيار. وبالتالي، من شأن زيادة عدد المدارس المختلطة أن تزيد الخيارات المتاحة، مع الحفاظ على الحق في الالتحاق بمدرسة دينية عند الرغبة. كما جادل دعاة الاندماج بأن تعزيز التعليم المدمج يقضي على الانقسام داخل المجتمع الأيرلندي الشمالي.

إلى جانب التعليم، لطالما كان الفصل مشكلة مزمنة على مستوى السكن أيضاً. والواقع أن نسبة 90٪ من العقارات السكنية تتسم بهوية واحدة (وحدوية بروتستانتية أو قومية كاثوليكية)،[48] ويحتوي بعضها على جداريات وأعلام شبه عسكرية تميزها على أنها إما قومية أو وحدوية. وقد يبدو هذا الأمر مخيفاً للأشخاص الذين ينتمون إلى خلفية عرقية وطنية مختلفة. بالنتيجة، دعت الأطراف الوسطية إلى زيادة عدد المناطق السكنية المختلطة حيث لا تزيد حصة أي من المجتمعين عن 50٪.

إدراكاً لهذه المشكلة، التزمت الهيئة التنفيذية للإسكان في أيرلندا الشمالية بزيادة الإسكان المشترك على النحو المبين في مشروع برنامج الحكومة للفترة 2016-2021. وتم الالتزام بتنفيذ 800 وحدة سكنية اجتماعية مشتركة في إطار برنامج تطوير الإسكان الاجتماعي، مع دعم كل حي مشترك بخطة للعلاقات الجيدة. وصرحت الهيئة في هذا السياق: “(…) لا تسعى استراتيجية الإسكان المشترك إلى إجبار الناس على العيش بطريقة معينة أو في منطقة معينة، بل بالأحرى إلى تحسين الخيارات المتاحة من خلال معالجة الحواجز التي تمنع الأفراد من اختيار العيش في منطقة سكنية مشتركة”.[49]

علاوة على ذلك، كرس اتفاق الجمعة العظيمة المساواة في المكانة. بالتالي فإن سياسات العلاقات الجيدة في أيرلندا الشمالية بشأن التعليم أو الإسكان المختلط لا تتعلق بالاستيعاب أو التجانس مع روح رسمية واحدة، بل إنها تتعلق بتشجيع أشكال التعبير والتفاعلات الثقافية المتنوعة في إطار الاحترام المتبادل. وقد أشار “استقصاء الحياة والأوقات” لعام 2021 إلى أن 77٪ من الناس، إذا خُيِّروا، يفضلون العيش في حي مختلط الأديان، بينما قال 12٪ فقط إنهم يفضلون العيش في حي يسكنه أبناء طائفتهم حصراً. وكما هو الحال بالنسبة للتعليم المدمج، من المرجح أن تؤدي زيادة توفير العقارات السكنية المشتركة إلى زيادة الإقبال عليها.

اللغة الأيرلندية

حتى بعد مرور ثلاثة وعشرين عاماً على اتفاق الجمعة العظيمة، لم يكن لأيرلندا الشمالية قانونٌ بشأن اللغة الأيرلندية. وكانت هذه نقطة خلاف خاصة لمجتمع اللغة الأيرلندية، نظراً إلى ما لذلك من أهمية من حيث الهوية والثقافة والرمزية. فقام حزب شين فين وحزب العمال الاشتراكي الديمقراطي ومجموعات اللغة الأيرلندية بحملة طالبت بقانون للّغة الأيرلندية. وفي أيار/مايو 2022، شارك الآلاف في مسيرة في بلفاست نظمتها مجموعة اللغة الأيرلندية “أن دريم ديرغ”، ودعت إلى قانون خاص بالأيرلندية. وفي النهاية، تم أخيراً طرح قانون للغة الأيرلندية في 25 أيار/مايو 2022، وهو مشروع قانون الهوية واللغة (لأيرلندا الشمالية) في وستمنستر فيما كانت أعمال جمعية أيرلندا الشمالية معلّقة. من شأن هذا القانون أن يعزز التعددية الثقافية واحترام التنوع، وأن ينشئ مفوضين للغة الأيرلندية ولغة ألستر الاسكتلندية (لغة الوحدويين البريطانيين).

 التقسيم في الرياضة

ظلت الرياضة الأيرلندية الشمالية منقسمة إلى حد كبير بين الطوائف. وبعد أكثر من عقد على اتفاق الجمعة العظيمة في عام 1998، خلصت تقارير مراقبة السلام في أيرلندا الشمالية إلى ما يلي: “لا توجد مناسبة في أيرلندا الشمالية يقف فيها الناس معاً لتأدية التحية لعلم واحد أو غناء أغنية وطنية واحدة أو تجربة شعور أن يكونوا شعباً واحداً بهوية واحدة مشتركة”.[50] وقد تجلى ذلك خلال دورة الألعاب الأولمبية لعام 2012 عندما احتفل فريق بريطانيا العظمى في قصر باكنغهام واحتفل فريق أيرلندا في أراس أن أوختاراين، مقر إقامة رئيس أيرلندا في دبلن.

وتعد كرة القدم مثالاً آخر واضحاً، فهي لا تزال منقسمة على أسس طائفية ما بين أندية قومية أيرلندية كاثوليكية (مثل كليفتونفيل) وأندية وحدوية بريطانية بروتستانتية (مثل لينفيلد). وفيما يستمد فريق أيرلندا الشمالية لكرة القدم دعمه بشكل رئيسي من المجتمع الوحدوي البروتستانتي، يدعم المجتمع القومي الكاثوليكي بشكل أساسي فريق جمهورية أيرلندا. مع ذلك، بادر السياسيون إلى خطوات عابرة للطوائف، مثل حضور الوزير الأول للحزب الديمقراطي الوحدوي بيتر روبنسون مباراةً لجمعية الألعاب الرياضية الغيلية. وبالمثل، حضر كارال ني تشويلين من شين فين مباراة كرة قدم في وندسور بارك، الملعب الرئيسي لنادي لينفيلد لكرة القدم. ولكن بعيداً عن هذه الخطوات التي تحدث على مستوى النخب، لا تزال الرياضة منقسمة على أسس مجتمعية، وهذا يعكس جزئياً حقيقة أنه لا توجد هوية مشتركة في أيرلندا الشمالية.

تأثير خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي

كان أحد العناصر المهمة في عملية السلام الأيرلندية هو التخفيف من حدة المسألة الدستورية المتعلقة بما إذا كان ينبغي أن تبقى أيرلندا الشمالية في المملكة المتحدة أم لا أو أن تكون جزءاً من أيرلندا الموحدة. وكان الهدف هو “تطبيع” أيرلندا الشمالية، بما يشمله ذلك من نزع السلاح وإزالة الحدود المادية بين شمال أيرلندا وجنوبها. بيد أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي غيّر المشهد السياسي بشكل جذري، سيما وأن أيرلندا الشمالية هي المنطقة الوحيدة التي تشترك في حدود برية مع الاتحاد الأوروبي. لذلك، كان من الضروري ترسيم الحدود بين الأراضي التابعة للاتحاد الأوروبي وتلك غير التابعة له. فانتشرت التكهنات حول إعادة بناء حدود مادية بين شمال أيرلندا وجنوبها، مع العلم بأن الحدود في أيرلندا هي أكثر بكثير من مجرد ترسيم مادي للأراضي. فهي مهمة للهوية والثقافة ولها أهمية رمزية ونفسية أيضاً، وأي حدود مادية فعلية ستواجَه بنظرة سلبية من المجتمع القومي وسيكون لها أثر ضار كبير على العلاقات المجتمعية.

وفي محاولة لتجنب إقامة مثل هذه الحدود بين الشمال والجنوب، دخل بروتوكول أيرلندا الشمالية حيز التنفيذ في عام 2021، حيث وضع ضوابط على البضائع بين بريطانيا وأيرلندا الشمالية. غير أن النقابيين عارضوا بشدة هذا البروتوكول، مدعين أنه يقوض الوحدوية،[51] لدرجة أن هذه القضية أسقطت الجمعية في شباط/فبراير 2022. لذلك، وبعد مرور 23 عاماً على اتفاق الجمعة العظيمة، أصبحت أيرلندا الشمالية مرة أخرى بدون جمعية عاملة. وبينما تستمر جهود المصالحة الطائفية، يمكن القول إنه من الصعب تحقيق المصالحة في مجتمع انهارت فيه حكومة تقاسم السلطة.

الخاتمة

استمر الصراع في أيرلندا لأجيال، وامتدت المرحلة الأخيرة منه في أيرلندا الشمالية من عام 1969 وحتى عام 1994. لقد كان الصراع غاية في التعقيد، وانطوى ماضيه الحديث على صدمات مؤلمة مثل العنف الطائفي والقتل.[52] وفي حين ساهمت اتفاقية الجمعة العظيمة المبرمة في عام 1998 في نأي السياسة الأيرلندية عن القتال المسلح، إلا أنها نقلت الصراع إلى الساحة السياسية، وهذا إنجاز ملفت بعد أكثر من ثلاثين عاماً من الصراع الدموي الذي سقط فيه حوالي 3700 ضحية.

ثم اكتسبت عملية السلام الأيرلندية بعض الزخم، بفضل الدور الحاسم الذي أدّته الجهات الفاعلة الخارجية، وبخاصة الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة. فقد اضطلع هذان الطرفان بدور هام في وضع الشروط المسبقة للمحادثات، والعمل كميسرين ووسطاء بين الجانبين المتنازعين، وتقديم الدعم المالي. كما كانت المبادرات المجتمعية وأعمال المنظمات غير الحكومية أساسية لتعزيز المصالحة المجتمعية، التي غالباً ما مولها الاتحاد الأوروبي من صناديق السلام.

فضلاً عن ذاك، شكّل تحول شرطة ألستر الملكية إلى شرطة أيرلندا الشمالية في عام 2001 مرحلة حاسمة في العملية، حيث أنه أطلق بشائر حقبة جديدة قَبِل فيها حزب شين فين بشرعية الشرطة للمرة الأولى. وبات اليوم قسم كبير من السكان يتقبّل دائرة الشرطة. مع ذلك، ما زالت مسألة الشرطة تثير قضايا معقدة، بما فيها التعامل مع الأحداث الماضية.[53] لكن التغيير الذي حدث، والذي أفضى إلى قوة شرطة مقبولة (ولو على مضض) من شريحة كبيرة من السكان، عزز محاولات المصالحة.

وهكذا، أصبحت أيرلندا الشمالية مجتمعاً أكثر مساواة. فقد تنامت المساواة في العمالة والإسكان، وازداد أيضاً التقدير والاحترام تجاه الهويات العرقية المتنافسة، وحظيت حقوق الهوية بالحماية القانونية، إذ كرس اتفاق الجمعة العظيمة الحق في أن يكون المواطن بريطانياً أو أيرلندياً أو كليهما. كما ازداد الشعور بالأمن والثقة في الهوية المجتمعية، لا سيما في المجتمع القومي، ما أدى إلى حس أكبر بالملكية تجاه أيرلندا الشمالية.

مع ذلك، وعلى الرغم من أن أيرلندا الشمالية أصبحت مجتمعاً أكثر مساواة، لا يمكن اعتبارها مجتمعاً متصالحاً أو معافى. فالماضي لا يزال يطارد أرضها ولا توجد سردية متفق عليها حول الصراع أو أسبابه أو كيفية التعامل مع الماضي (بما في ذلك العدالة عن الأفعال المرتكبة، لا سيما ما إذا كان ينبغي محاكمة الجنود البريطانيين أم لا، على سبيل المثال بسبب الأحد الدامي). وتبين أيضاً أن العيش الموازي مشكلة بحد ذاتها، مع استمرار الفصل والتمييز في السكن والتعليم. وبينما بُذلت الجهود لتقليل ممارسات الفصل، وقدمت السلطة التنفيذية في أيرلندا الشمالية التمويل اللازم لزيادة الأماكن العامة المشتركة، ما زالت تدعو الحاجة إلى إحراز مزيد من التقدم في هذا الصدد.

في انتخابات الجمعية في أيار/مايو 2022، ولأول مرة في تاريخ أيرلندا الشمالية، فاز حزب قومي (شين فين) بمنصب الوزير الأول، الذي كان يشغله سابقاً الحزب الديمقراطي الوحدوي. وحتى كانون الثاني/يناير 2024، لم يكن أي حزب وحدوي يعرف بالتأكيد ما إذا كان سيدخل الجمعية مع وزير أول من شين فين، وهذا يدل على انعدام الثقة المستمر بين النخبة السياسية والمهمة الضخمة التي تفرضها المصالحة في مثل هذا المجتمع المنقسم. في شباط/فبراير 2024، أعيد تشكيل جمعية أيرلندا الشمالية بعد أن أيد الحزب الديمقراطي الوحدوي اتفاقاً بشأن ترتيبات بروتوكول خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي لأيرلندا الشمالية.[54]

ويجادل البعض بأن اتفاق الجمعة العظيمة قد يحتاج إلى إعادة تصميم ليعكس المرحلة الراهنة من العملية، مع التركيز بدرجة أكبر على بناء السلام وبدرجة أقل على صنع السلام الذي كان مطلوباً في عام 1998. علاوة على ذلك، وُضع اتفاق الجمعة العظيمة لمعالجة وضع الأغلبية والأقلية الذي لم يعد موجوداً مع نمو الطبقة الوسطى التي يمثلها حزب التحالف. من هنا جاءت الدعوات إلى تعديل نظام التعيين داخل الجمعية، بحيث نادى البعض (بما في ذلك بعض الأحزاب السياسية) بإلغاء التصنيف المطلوب لأعضاء الجمعية على أنهم وحدويون أو قوميون أو غير ذلك، لتعكس الواقع الجديد لأيرلندا الشمالية التي تضم الآن ثلاثة تصنيفات: الوحدوية 41٪، والقومية 39٪، والوسط 20٪. ويمكن الاستعاضة عن التصنيفات الطائفية بأغلبية مرجحة، بما يضمن تأييد الأغلبية من اثنين على الأقل من التصنيفات الثلاثة الحالية للقرارات الرئيسية.

ينقسم سكان أيرلندا الشمالية، الذين يبلغ عددهم حوالي مليوني نسمة، بالمناصفة تقريباً بين السكان القوميين الأيرلنديين الكاثوليك والسكان الوحدويين البريطانيين البروتستانت. ولا يزال المجتمع يعرَّف بموقفين عرقيين قوميين متعارضين لا يمكن التوفيق بينهما، فضلاً عن شريحة وسطية مهمة متنامية تدعي أنها محايدة بشأن المسألة الدستورية.

بشكل عام، تعد أيرلندا الشمالية مجتمعاً منقسماً على أساس الهوية. ولكنه أيضاً مجتمع أكثر اعتدالاً يشعر فيه الأفراد بالثقة في التعبير عن هويتهم الثقافية. وقد خلص “استقصاء الحياة والأوقات في أيرلندا الشمالية” لعام 2021 إلى أن 10٪ ممن شملهم الاستطلاع “يوافقون بشدة” على أن هويتهم الثقافية تلقى الاحترام في المجتمع، و40٪ “يوافقون”.[55]

وعلى الرغم من التقدم المحرز، لا تزال المصالحة تواجه تحديات كبيرة بما في ذلك قضايا الإرث وأهمها التطلعات السياسية المتعارضة للوحدوية والقومية، والتي ترتبط ارتباطاً جوهرياً بقضايا الهوية والثقافة. وثمة شرائح في المجتمع لا تشعر بأي فائدة من مكاسب السلام ولا تشعر بأن لها أي مصلحة في العملية.

في الختام، لا يزال أمام المصالحة شوط طويل في أيرلندا الشمالية، فهي تتطلب عملية طويلة تكمّل العملية السياسية السائدة وعملية تقاسم السلطة. كما أن المصالحة بحاجة إلى نهج متعدد الأوجه يشمل المبادرات التي تقودها الحكومة، فضلاً عن الجهود من المنظمات غير الحكومية والقطاع المجتمعي والأوساط الأكاديمية. كما أنها تتطلب مبادرات تقودها النخبة وتترافق مع توفير الموارد الكافية.

الدروس المستخلصة

في حين أن كل صراع فريد من نوعه في طابعه وتاريخه، إلا أن هناك دروساً عامة يمكن استخلاصها من تجربة أيرلندا الشمالية. فالصراع في المقاطعات الست هو من أكثر الصراعات التي تمت دراستها في العالم، بحيث وصفه الباحثون بأنه مستعصٍ ومحصلته صفر. لذلك، فإن عملية السلام التي جلبت سلاماً نسبياً إلى المنطقة تعتبر إنجازاً رائعاً. وقد تم تصدير الدروس المستخلصة من عملية السلام هنا إلى صراعات أخرى في جميع أنحاء العالم، من قبل السياسيين والمجتمع المدني والأوساط الأكاديمية. وفي حين تشكل المصالحة تحدياً مستمراً في أيرلندا الشمالية، إلا أن المنطقة انتقلت من الصراع العنيف إلى السلام النسبي. وقد تكون الدروس التالية مفيدة للبلدان الأخرى الخارجة من الصراع:

  • قامت عملية السلام والمصالحة في أيرلندا الشمالية على أسس المساواة والتكافؤ في المكانة، وهي مبادئ مكرسة في اتفاق الجمعة العظيمة لعام 1998. فقد كانت أول نقطة انطلاق للسلام في أيرلندا الشمالية هي تكريس المساواة بين المجتمعات القومية والوحدوية والمجتمعات الأخرى، بحيث تم دمج مبدأ المساواة في المؤسسات القائمة على تقاسم السلطة، ويشمل ذلك حق النقض المتبادل والاستقلال الذاتي القطاعي. إذ لا يمكن تحقيق المصالحة في مجتمع خارج من صراع بدون بنائها على أسس المساواة التي يجب أن تكون مضمنة في الاتفاق والمؤسسات والثقافة المجتمعية ككل.
  • أثبتت أيرلندا الشمالية أن إنهاء الصراع العنيف لا يتطلب سردية مشتركة متفقاً عليها للماضي. ففي أيرلندا الشمالية، لم يتم الاتفاق على سردية واحدة، ولا تزال هذه المشكلة سبب خلاف بين تقاليد القوميين والوحدويين المختلفة. لكن عملية السلام في أيرلندا الشمالية أظهرت أنه من الممكن إنهاء الصراع والمضي قدماً حتى مع تبنّي آراء متعارضة بشأن الصراع، بما في ذلك وجهات نظر متعارضة بشأن أسباب نشوء الصراع. فالأولوية هي إنهاء العنف والخسائر في الأرواح. وبالتالي، كان الأمر المهم هو الاتفاق على المضي قدماً على أساس سلمي، والسعي إلى تحقيق الأهداف السياسية من خلال مؤسسات تقاسم السلطة المنبثقة عن الاتفاق. وربما لن يتم التوصل إلى سردية موحدة عن الماضي في أيرلندا الشمالية، لكن هذا لا يمنع التقدم والسلام النسبي.
  • يتمثل جزء رئيسي من عملية أيرلندا الشمالية في نقل صلاحيات العدالة وإصلاح نظام الشرطة. فعلى مر التاريخ، كان المجتمع القومي والجمهوري معادياً للشرطة في أيرلندا الشمالية، وتحديداً شرطة ألستر الملكية. وفي عام 1999، بشّر تقرير باتن بتغيير كبير في الشرطة في أيرلندا الشمالية حيث تحولت شرطة ألستر الملكية إلى شرطة أيرلندا الشمالية. وشملت التغييرات الرئيسية التمييز الإيجابي الذي أدى إلى زيادة كبيرة في أعضاء المجتمع الكاثوليكي المنضمين إلى سلك الشرطة الجديد، إلى جانب قسَم جديد يؤديه جميع المجندين للتعبير عن التزامهم بحقوق الإنسان. بالتالي، تشكل أعمال الشرطة المقبولة حجر الزاوية الذي تقوم عليه جهود المصالحة الحقيقية.
  • في تجربة أيرلندا الشمالية، لم يكن إنهاء الصراع العنيف سوى بداية جهود المصالحة الجادة. فقد جرت العملية السياسية في أيرلندا الشمالية بقيادة النخبة، بدون أي استراتيجية بشأن العلاقات الودية كان من الممكن وضعها إلى جانب العملية التي تقودها النخبة. وربما ثبت أن الاستراتيجية التكميلية للعلاقات الطيبة كانت أجدى في تحقيق مصالحة مستدامة. وأظهرت أيرلندا الشمالية أيضاً أن جهود المصالحة والإدماج تتطلب تخصيص الموارد والخدمات على نحو كاف لاستكمال جهود المجتمع المدني وتعزيزها.
  • دام الاتفاق في أيرلندا الشمالية لأن المحادثات التي أدت إليه كانت شاملة لجميع أطراف النزاع. ناقشت المؤلفات العلمية حول أيرلندا الشمالية ما إذا كان ينبغي القبول بمشاركة المتورطين في العنف في محادثات السلام أم لا. وفي عام 1997، وافق حزب شين فين على مبادئ ميتشل، ما مهد الطريق أمام الحزب للدخول في المحادثات بين كل الأحزاب (مع بعض المعارضة من الوحدويين). والأرجح أن الاتفاق ما كان ليستمر بدون شين فين. وبذلك أظهرت حالة أيرلندا الشمالية أهمية المحادثات الجامعة.
  • من السمات البارزة لعملية السلام في أيرلندا الشمالية مشاركة الجهات الفاعلة الخارجية والجهات المسهِّلة إلى جانب المجتمع المدني. شكلت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي جزءاً أساسياً من تسهيل الحوار المؤدي إلى الاتفاقية. فقد كان للاتحاد الأوروبي دور كبير في توفير التمويل لجهود المصالحة من خلال صناديق السلام، فيما اضطلعت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بدور حاسم في توفير الزخم والدعم لعملية السلام. فالسناتور جورج ميتشل مثلاً ترأس المحادثات التي أفضت إلى الاتفاق في عام 1998، كما قدم الرئيس الأمريكي بيل كلينتون دعمه للعملية.
  • أثبت استخدام اللغة البنّاء أهميته الحاسمة في تحقيق السلام بين التقاليد المتعارضة وغير القابلة للتوفيق في أيرلندا الشمالية – وهو ما سُمّي بالغموض البّناء. فقد سمح اتفاق عام 1998 لكل من الجانبين بالتمسك به أمام قاعدته باعتباره طريقاً للمضي قدماً. كما أن الزعيم السابق لحزب العمال الاشتراكي الديمقراطي ومفاوض اتفاق الجمعة العظيمة مارك دوركان شبّه الاتفاق بصورة ثلاثية الأبعاد تديرها وتنظر إليها بطرق مختلفة لرؤية أشياء مختلفة. بالتالي فإن اللغة البناءة تساعد في تمهيد الطريق نحو الأمام في وضع لا رابح فيه ولا خاسر.

المراجع

بيو وفرامبتون. التحدث إلى الإرهابيين: صنع السلام في أيرلندا الشمالية وبلاد الباسك. لندن: هيرست وشركاه، 2009.

توني بلير. رحلة. لندن: راندوم هاوس، 2010.

ج. بيل بوير. الجيش الجمهوري الأيرلندي 1968-2000: تحليل الجيش السري. لندن: فرانك كاس للنشر، 2000.

دومينيك براين وغوردون جيليسبي. أيرلندا الشمالية: أكثر تقاسماً وانقساماً. دليل روتليدج الدولي للدراسات الأيرلندية. لندن: روتليدج، 2020.

جوني بايرن وكاثي غورملي-هينان ودانكن مورو. “إزالة جدران السلام وموجز السياسة العامة (3): تحدي إشراك المجتمعات”. سلسلة ندوات التبادل المعرفي 2015-2016. http://www.niassembly.gov.uk/globalassets/documents/raise/knowledge_exchange/briefing_papers/series5/byrne071015.pdf

فيرغال كوكرين. كسر السلام: خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وأيرلندا الشمالية. مانشستر: مطبعة جامعة مانشستر، 2020.

فيرغال كوكرين. أيرلندا الشمالية: السلام الهش. نيو هايفن ولندن: مطبعة جامعة ييل، 2021.

مارك دالي. “المشاغل والمخاوف الوحدوية بشأن أيرلندا الموحدة: الحاجة إلى حماية عملية السلام ووضع رؤية لجزيرة مشتركة وشعب موحد. بناءً على توصية تقرير لجنة إيراختس المشتركة حول تنفيذ اتفاقية الجمعة العظيمة “خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي ومستقبل أيرلندا، توحيد أيرلندا وشعبها في سلام وازدهار”، 2017.

جون ديكسون، كولين تريدو، براندن ستورجن، بري هوكينغ، جيما ديفيز جوني هاك، دانكن وايت، نيل جارمان، دومينيك بريان. “عندما تنهار الجدران”: تأثير القرب والتهديد والاتصال بين المجموعات على المواقف تجاه إزالة جدران السلام في أيرلندا الشمالية”. المجلة البريطانية لعلم النفس الاجتماعي، العدد 59 (2020): 922-944.

إيرين إيرلي، بولا ديفين، ليو مينشن، ديرك شوبوتز. “تقييم الطلب على التعليم المتكامل في أيرلندا الشمالية”. موجز سياسات آي آر كي ARK، حزيران/يونيو 2023. https://www.ark.ac.uk/ARK/sites/default/files/2023-06/policybrief25.pdf

آرون إدواردز. UVF: خلف القناع. كيلدير: مطبعة ميريون، 2017.

ريتشارد إنغليش. الكفاح المسلح: تاريخ الجيش الجمهوري الأيرلندي، أكسفورد: ماكميلان، 2012.

لجنة المساواة. ‘المادة 75 من قانون أيرلندا الشمالية لعام 1998؛ دليل للسلطات العامة”، نيسان/أبريل 2010.

الاتحاد الأوروبي، صحائف وقائع عن الاتحاد الأوروبي، “برنامج أيرلندا الشمالية للسلام”. https://www.europarl.europa.eu/factsheets/en/sheet/102/northern-ireland-peace-programme

إيمير فلانيغان. “ستورمونت بدون قيادة من أيرلندا الشمالية لثلث عمرها”، بي بي سي، 12 شباط/فبراير 2022. https://www.bbc.co.uk/news/uk-northern-ireland-60249249

اتفاق الجمعة العظيمة، 1998. https://assets.publishing.service.gov.uk/government/uploads/system/uploads/attachment_data/file/1034123/The_Belfast_Agreement_An_Agreement_Reached_at_the_Multi-Party_Talks_on_Northern_Ireland.pdf

كاتي هايورد. “خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وبروتوكول أيرلندا الشمالية: تغيير العلاقات الدستورية؟” ذا ريت- مجلة جمعية القانون في أيرلندا الشمالية، العدد 236 (2021). https://pureadmin.qub.ac.uk/ws/portalfiles/portal/250001662/writ_2.pdf

مات هيرست. “تحول كبير في دعم الحقيقة والمصالحة عبر انتخابات أيرلندا الشمالية”. جامعة ليفربول، 2020. https://news.liverpool.ac.uk/2020/03/06/huge-shift-in-support-for-truth-and-reconciliation-across-northern-ireland-electors/

نيل جرمان. “الحواجز الفاصلة وخطوط السلام والهندسة الدفاعية”. تقرير أعده معهد السناتور جورج ج. ميتشل للسلام العالمي والعدالة والأمن في جامعة كوينز بلفاست. 2017. https://www.belfastinterfaceproject.org/sites/default/files/publications/Interfaces%20PDF.pdf

ماريسا ماكغلينشي. عمل غير مكتمل: سياسة الجمهورية الأيرلندية “المنشقة”. مانشستر: مطبعة جامعة مانشستر، 2019.

ماريسا ماكغلينشي. “الثورة غير المكتملة للجمهوريين الأيرلنديين” المنشقين “: وجهات نظر متباينة في قاعدة مجزأة”. مجلة الحروب الصغيرة والتمردات، المجلد 32: 4-5 (2021).

ديفيد ماكيتريك، شيموس كيلترز، براين فيني، كريس ثورنتون. الأرواح المفقودة: قصص الرجال والنساء والأطفال الذين قضوا نتيجة اضطرابات أيرلندا الشمالية. إدنبرة: شركة ماينستريم للنشر المحدودة، 1999.

جورج ميتشل. صنع السلام: القصة الداخلية عن وضع اتفاقية الجمعة العظيمة. لندن: وليام هاينمان، 1999.

ديفيد ميتشل، إيتين تانام، سارة والاس. “تأثير الاتفاقيات على التعاون السياسي”. مجلة الدراسات السياسية الأيرلندية، المجلد 33، العدد 3 (2018).

مورو، دنكان. “من أعداء إلى شركاء؟ المصالحة في أيرلندا الشمالية”. أكورد إنسايت (3)، أيلول/سبتمبر 2016.

بول نولان. “تقرير مراقبة السلام في أيرلندا الشمالية. رقم 2”. 2013. https://www.community-relations.org.uk/files/communityrelations/media-files/NIPMR2.pdf

بول نولان. “تقرير مراقبة السلام في أيرلندا الشمالية رقم 1″، 2012. https://cain.ulster.ac.uk/events/peace/docs/nipmr_2012-02.pdf

الهيئة التنفيذية للإسكان في أيرلندا الشمالية. السكن المشترك.  https://www.nihe.gov.uk/Community/Community-Cohesion/Shared-Neighbourhood-Programme

براندن أوليري. بحث عن أيرلندا الشمالية. المجلد 3: التوحيد والكونفدرالية. أكسفورد، مطبعة جامعة أكسفورد، 2018.

جوناثان باول. كراهية كبيرة، مساحة صغيرة: صنع السلام في أيرلندا الشمالية. لندن: بودلي هيد، 2008.

ميتشل ب. رايس. “أرشيف وزارة الخارجية الأمريكية: دروس عملية أيرلندا الشمالية. الموقر ميتشل ب. رايس”، 2005.

مارك سالتر. عمليات المصالحة والسلام. أكورد إنسايت (3)، أيلول/سبتمبر 2016.

بيتر شيرلو، جون تونج. استطلاع جامعة ليفربول الانتخابات العامة في أيرلندا الشمالية 2019. https://www.liverpool.ac.uk/media/livacuk/research/heroimages/The-University-of-Liverpool-NI-General-Election-Survey-2019-March-20.pdf

روبرت و. وايت. من تحت الرماد: تاريخ شفهي للحركة الجمهورية الأيرلندية المؤقتة. كيلدير: مطبعة ميريون، 2017.

روبرت و. وايت. الجمهوريون الأيرلنديون المؤقتون: تاريخ شفهي وتفسيري. لندن: مطبعة غرينوود، 1993.

روبن ويلسون. “من التوافقية إلى التعددية الثقافية”. في ر. تايلور (محرر)، النظرية التوافقية: ماكغاري وأوليري وصراع أيرلندا الشمالية، 221-237. لندن: روتليدج، 2009.

ريك ويلفورد، روبن ويلسون. المشكلة مع أيرلندا الشمالية: اتفاقية بلفاست والحكم الديمقراطي. دبلن: المؤسسة الفكرية للعمل من أجل التغيير الاجتماعي (TASC) في نيو آيلاند، 2006.

 

[1] الدكتورة ماريسا ماكغلينشي من مواليد بلفاست في مقاطعة أنتريم في أيرلندا الشمالية. تعمل حالياً في جامعة كوفنتري كأستاذة مساعدة في العلوم السياسية، ومقرها في معهد السلام والأمن. حصلت ماريسا على درجة الدكتوراه في العلوم السياسية من جامعة بلفاست في كوينز عام 2010، وتتمحور خبرتها حول السياسة الأيرلندية وتحديداً الجمهوريانية والقومية الأيرلندية. ألفت كتاب “أعمال غير مكتملة؛ سياسة الجمهوريانية الأيرلندية “المنشقة”، مطبعة جامعة مانشستر، 2019؛ وحازت جائزة براين فاريل للكتاب 2020 عن أفضل كتاب في العلوم السياسية. شغلت ماريسا منصب نائب رئيس جمعية الدراسات السياسية في أيرلندا للفترة 2019-2022 وكانت معلقة خبيرة في العديد من وسائل الإعلام بما في ذلك بي بي سي وآر تي إي وآي تي في والجزيرة. كما أنها كتبت المقالات لصحيفة الغارديان وآيرش تايمز بناءً على دعوة منهما، إضافة إلى منشورات أخرى. كذلك، غطت ماريسا موضوع الجمهوريانية الأيرلندية والقومية الأيرلندية في المجلات الأكاديمية مثل مجلة الحروب الصغيرة والتمردات ومجلة العلوم السياسية السويسرية، وساهمت في إعداد كتيب روتليدج المرتقب حول العلوم السياسية. عملت أيضاً في التنقيح والمراجعة لدى المجلات الأكاديمية ودور النشر، بما في ذلك مطبعة جامعة ييل ومطبعة جامعة ليفربول.

[2] يستمر العنف الحالي من الجمهوريين الأيرلنديين “المنشقين” الذين يعارضون العملية السياسية. لكنه يرتكب على مستوى منخفض ويستهدف الشرطة بشكل أساسي.

[3] أصبحت الدولة الأيرلندية الحرة (أو 26 مقاطعة) الجمهورية الأيرلندية في عام 1937.

[4] أصدر مجلس العلاقات المجتمعية، ومقره بلفاست، تقارير سنوية لرصد السلام (2010-2018). وقد رسمت هذه التقرير مسار جهود المصالحة داخل المجتمع الأيرلندي الشمالي، بما في ذلك جرائم الكراهية.

[5] ليس الصراع دينياً بطبيعته، بل إن الدين يشكل علامة على الهوية الوطنية.

[6] أوقف الجيش الجمهوري الأيرلندي المؤقت إطلاق النار في عام 1994، ثم انهار الاتفاق في عام 1996، ولكنه استؤنف في عام 1997. وجرى نزع السلاح في عام 2005.

[7] حول الجمهوريانية الأيرلندية، انظر روبرت و. وايت، 1993 و2017؛ ريتشارد إنغليش، 2012؛ جون بوير بيل، 2000.

[8] سميت تيمناً بقوة ألستر التطوعية في عام 1912 التي تشكلت للقتال ضد الحكم الذاتي الأيرلندي.

[9] بدأت حملة الجيش الجمهوري الأيرلندي المؤقت تتضمن بشكل متزايد “أهدافاً اقتصادية” في بريطانيا. في الواقع، انهار اتفاق وقف إطلاق النار الذي أبرمه الجيش الأيرلندي في عام 1996 حين فجرت المنظمة قنبلة تزن 3000 رطل في لندن، متسببة بأضرار بقيمة 150 مليون جنيه إسترليني.

[10] في عام 1998، لم يؤيد الحزب الديمقراطي الوحدوي الاتفاق. في وقت الاتفاق، كان حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي أكبر ممثل للمجتمع القومي، بينما كان حزب ألستر الوحدوي أكبر ممثل للمجتمع الوحدوي. ولكن في عام 2001 تفوق حزب شين فين الأكثر “تشدداً” على حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي في الانتخابات. وفي عام 2003 تفوق الحزب الديمقراطي الوحدوي الأكثر “تشدداً” على الحزب حزب ألستر الوحدوي. ولا يزال شين فين والحزب الديمقراطي الوحدوي أكبر حزبين في الحكومة، يليهما حزب التحالف غير المتوافق معهما.

[11] في الوقت نفسه، أجري استفتاء في جنوب أيرلندا على إزالة المادتين 2 و3 من الدستور الأيرلندي اللتين تطالبان بأراضي أيرلندا الشمالية.

[12] التوافقية هي نموذج حكومة يقوم على تقاسم السلطة. تم تصميمه من قبل العالم السياسي أرند ليفارت للمجتمعات الخارجة من الصراع أو المجتمعات المعرضة لصراع محتمل. كما تم تطبيق النموذج في سويسرا وبلجيكا ولبنان. تنطوي الديمقراطية التوافقية على ائتلاف كبير من الأحزاب والحكم الذاتي القطاعي والتناسبية وحق النقض للأقلية. والهدف منها هو تعزيز الحكم التعاوني في مجتمع منقسم.

[13] كانت الحملة الحدودية، المعروفة أيضاً بعملية الحصاد، عبارة عن حرب عصابات خاضها الجيش الجمهوري الأيرلندي بين عامي 1956 و1962 واستهدفت مراكز الشرطة في جميع أنحاء أيرلندا الشمالية، في محاولة لإنهاء الحكم البريطاني وفرض أيرلندا الموحدة.

[14] توفي 14 شخصاً في وقت لاحق.

[15] للحصول على معلومات حول قوة ألستر التطوعية، انظر آرون إدواردز، قوة ألستر الدفاعية: ما وراء القناع، 2017.

[16] ت. بلير، رحلة، ص. 166.

[17] بحلول تشرين الأول/أكتوبر 1998، أفرج عن نحو 167 سجيناً؛ كانت منظماتهم في حالة وقف لإطلاق النار. وبحلول عام 2000، أفرج عن أكثر من 400 سجين.

[18] تتم مناقشة هذه النقطة في مقاطع لاحقة.

[19] لمعرفة المزيد حول الجمهوريين المنشقين، انظر ماريسا ماكغلينشي، أعمال غير مكتملة، 2019.

[20] ميتشل وآخرون، “تأثير الاتفاق على التعاون السياسي”، ص. 283.

[21] انظر ر. ويلسون، “من التوافقية إلى التعددية الثقافية”، ص 226-227.

[22] https://www.britishirishcouncil.org/about-council

[23] تستوجب الاتفاقية من وزير الدولة البريطاني لأيرلندا الشمالية الدعوة إلى استفتاء (يعرف أيضاً باستطلاع الحدود) حول الوحدة الأيرلندية عند الاعتقاد بوجود دعم كافٍ له.

[24] طالب الوحدويون بتفكيك أسلحة الجيش الجمهوري الأيرلندي المؤقت. وفي مرحلة ما، طالب الحزب الديمقراطي الوحدوي بأدلة فوتوغرافية على ذلك، الأمر الذي رفضه الجمهوريون. في النهاية، أشرف قادة الكنيسة على عملية نزع السلاح.

[25] ألقي القبض على أعضاء من شين فين في الجمعية بتهمة جمع معلومات استخباراتية في ستورمونت. فقد زُعم أن هناك حلقة تجسس تابعة للجيش الجمهوري الأيرلندي في ستورمونت تجمع معلومات استخباراتية. ثم أسقطت التهم في وقت لاحق.

[26] تدور فضيحة نظام حوافز التسخين بالموارد المتجددة حول مخطط للطاقة الحرارية المتجددة تضمّن حرق حبيبات الخشب. وتم دفع المال للمتقدمين بطلب لقاء استخدام الطاقة المتجددة ولكن التكاليف تصاعدت وكان الكثيرون يكسبون المال ببساطة عن طريق تدفئة عقاراتهم. ثم أشرفت زعيمة الحزب الديمقراطي الوحدوي والوزيرة الأولى أرلين فوستر على المخطط. واستقال نائب الوزير الأول التابع لشين فين، مارتن ماكغينيس، بسبب هذه القضية ما أدى إلى انهيار السلطة التنفيذية.

[27] د. مورو، “من أعداء إلى شركاء؟ المصالحة في أيرلندا الشمالية”.

[28] ج. ج. ميتشل، صنع السلام، ص. 184-185.

[29] انتهى التجنيد على أساس المناصفة عندما جادل وزير الخارجية آنذاك أوين باترسون بأن هذا التغيير كان مناسباً بسبب حقيقة أن نسبة كبيرة من عناصر شرطة أيرلندا الشمالية كانوا الآن من المجتمع الكاثوليكي، فضلاً عن حقيقة أن صلاحيات الشرطة والعدالة نقلت في العام السابق من وستمنستر إلى جمعية أيرلندا الشمالية. انظر: https://www.gov.uk/government/news/secretary-of-state-to-end-the-use-of-the-temporary-50-50-recruitment-provisions

[30] وقعت المعركة في عام 1690 وأسفرت عن هزيمة الملك البروتستانتي ويليام للملك الكاثوليكي جايمس.

[31] لا يزال جهاز الأمن البريطاني (القسم الخامس في هيئة المخابرات العسكرية) موجوداً.

[32] للاطلاع على الدراسات الاستقصائية “استقصاء الحياة والأوقات في أيرلندا الشمالية”، انظر: https://www.ark.ac.uk/ARK/nilt

[33] ف. كوكرين، أيرلندا الشمالية، 2021، ص. 212.

[34] تم تعيين بعض الأعضاء من الأحزاب السياسية، بينما كان البعض الآخر مستقلاً.

[35] تقرير الأعلام والهوية والثقافة والتقاليد، 1 كانون الأول/ديسمبر 2021.

[36] الاتحاد الأوروبي، صحائف وقائع، برنامج أيرلندا الشمالية للسلام.

[37] “مستقبل مشترك: إطار سياساتي واستراتيجي للعلاقات الودية في أيرلندا الشمالية”، آذار/مارس 2005:

[38] تم تضمين التزام بتمديد برنامج السلام هذا حتى عام 2023 في اتفاقية الانسحاب من الاتحاد الأوروبي بين المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي. إن خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي يعني أن أيرلندا الشمالية تترك أكبر متبرع لها على الإطلاق، وهو ما لم يتم لمس عواقبه بعد.

[39] https://www.corrymeela.org/about

[40] تم إجراء الاستطلاع من قبل الأستاذين جون تونج وبيتر شيرلو في جامعة ليفربول.

[41] ب. نولان، تقرير مراقبة السلام، العدد 2، ص. 7. 2013. https://www.community-relations.org.uk/files/communityrelations/media-files/NIPMR2.pdf

[42] ديكسون وآخرون، “عندما تنهار الجدران”، ص. 925.

[43] انظر “تقارير مراقبة السلام” الصادرة عن مجلس العلاقات المجتمعية: https://www.community-relations.org.uk/publications/northern-ireland-peace-monitoring-report؛ انظر أيضاً “حواجز الواجهة وخطوط السلام والهندسة الدفاعية”، مشروع واجهة بلفاست، 2017: https://www.belfastinterfaceproject.org/sites/default/files/publications/Interfaces%20PDF.pdf

[44] المرجع نفسه.

[45] تنفَّذ المشاريع منذ تسعينيات القرن العشرين، مثل مشروع واجهة بلفاست الذي حاول تحسين نوعية الحياة لأولئك الذين يعيشون عند الحدود الفاصلة. وكثيراً ما عملت المنظمات المجتمعية والقيادات مع الشرطة وأدت دوراً فاعلاً في الحد من التوترات عندما تحولت القضايا الثقافية المثيرة للجدل إلى أعمال عنف. كما اضطلع قادة المجتمعات المحلية بدور محوري في برامج الشباب المشتركة بين المجتمعات المحلية.

[46] إيرلي وآخرون “تقييم الطلب على التعليم المختلط في أيرلندا الشمالية”. لم تتغير نسبة 7٪ عن تقرير مراقبة السلام الصادر قبل عقد من الزمن، والذي وجد أيضاً أن 7٪ من الأطفال يرتادون مدارس مختلطة في أيرلندا الشمالية: https://www.community-relations.org.uk/files/communityrelations/media-files/NIPMR2.pdf

[47] انظر تقارير مراقبة السلام بالإضافة إلى استقصاءات الحياة والأوقات السنوية في أيرلندا الشمالية. للاطلاع بالتفصيل على نسب تأييد التعليم المختلط بحسب الخلفية الطائفية، انظر مسح ليفربول العام للانتخابات العامة 2019، ص 17 و21: https://www.liverpool.ac.uk/media/livacuk/research/heroimages/The-University-of-Liverpool-NI-General-Election-Survey-2019-March-20.pdf

[48] اتحاد أيرلندا الشمالية لجمعيات الإسكان.

[49] هيئة أيرلندا الشمالية التنفيذية للإسكان، الإسكان المشترك: https://www.nihe.gov.uk/Community/Community-Cohesion/Shared-Neighbourhood-Programme

[50] ب. نولان، تقرير مراقبة السلام، العدد 1، ص. 177. 2012. https://cain.ulster.ac.uk/events/peace/docs/nipmr_2012-02.pdf

[51] ر. هيويت، “المواجهة: الموالون يستهدفون الشرطة بالصواريخ خلال احتجاج مناهض للبروتوكول”، بلفاست تلغراف، 4 تشرين الثاني/نوفمبر 2021. انظر أيضاً هايوارد، “خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وبروتوكول أيرلندا الشمالية: تغيير العلاقات الدستورية؟”، https://pureadmin.qub.ac.uk/ws/portalfiles/portal/250001662/writ_2.pdf

[52] للحصول على تفاصيل عن القتلى خلال “الاضطرابات”، انظر ماك كيتريك وآخرون. الأرواح المفقودة، 1999.

[53] ما زال بعض الجمهوريين والقوميين الأيرلنديين يشككون في الشرطة. وثمة أيضاً جمهوريون أيرلنديون “منشقون” يواصلون رفض شرطة أيرلندا الشمالية بشدة. ولا تزال الشرطة موضع استهداف رئيسي للجماعات المسلحة “المنشقة”، وتحديداً جيش استمرارية الجمهورية الأيرلندية والجيش الجمهوري الأيرلندي الجديد.

[54] تتألف ورقة القيادة المعنونة “حماية الاتحاد” من عنصرين رئيسيين: (1) التغييرات في قانون السوق الداخلية/إطار عمل وندسور، و2) التدابير المتعلقة بالوضع الدستوري لأيرلندا الشمالية https://commonslibrary.parliament.uk/research-briefings/cbp-9954/

[55] مقسمة حسب الدين، 51٪ من الكاثوليك المشمولين بالاستطلاع إما “وافقوا” أو “وافقوا بشدة” و49٪ من البروتستانت إما “وافقوا” أو “وافقوا بشدة”.

In focus

النظام المحلي في ليبيا: ضبابية الرؤى وتداخل المفاهيم

مروة الشيباني

18 أبريل 2024

سلام بدون مصالحة في أيرلندا الشمالية: دروس لليبيا؟

ماريسا ماكغلينشي

15 أبريل 2024

العواصف الرملية في ليبيا: الحاجة الملحة لسياسات التصدي

ريما حميدان

5 مارس 2024