آفاق الحكم المحلي في ليبيا: تأطير النقاش للاستقرار بعد الصراع

المقدمة

أثارت ثورة 2011 في ليبيا عدة مواضيع تتعلق بالتوزيع العادل للسلطة والثروة بين كامل مناطق البلاد، ومطالب بالمشاركة في صنع القرار على المستوى المحلي. تتناول هذه الدراسة تطور نظام الحكم المحلي في ليبيا من تاريخها المعاصر الى حد الآن، مع الأخذ بعين الاعتبار العوامل الثقافية والسياسية والاجتماعية والمؤسساتية في تحليل كيفية تطوير نظام الحكم المحلي لتلبية تطلعات ومطالب الليبيين.

الاتفاق على نموذج جديد للحكم المحلي في ليبيا ليس بالمهمة السهلة نظراً للانقسامات السياسية والاجتماعية الموجودة والتي تعمقت بسبب الحرب الأهلية. ولكن لماذا الحديث عن الحكم المحلي في ظل تفتت الدولة؟

أولا وقبل كل شيء، لأنه موضوع يثيره الليبيون أنفسهم باستمرار. لقد أثير موضوع الحكم المحلي واللامركزية في النقاش العام منذ فبراير 2011، على الرغم من أن هذه المصطلحات تحمل معاني مختلفة لأشخاص مختلفين، و غالبًا ما يتم طرحها للتعبير عن مطالب مثل الإدماج السياسي والاقتصادي، والمشاركة العامة في صنع القرار، والتوزيع العادل للموارد.

ثانياً، تشير خارطة الطريق الليبية لـ “المرحلة التحضيرية للحل الشامل” التي انبثقت عن منتدى الحوار السياسي الليبي وأشارت إلى تعزيز الحكم المحلي كأحد المواضيع الرئيسية التي يجب معالجتها من أجل حل الأزمة القائمة. ويُنظر إلى الحكم المحلي على أنه آلية مهمة لحل الصراع الليبي المعقد للغاية ومعالجة أسبابه الجذرية. بعبارة بسيطة، يمكن لتقسيم السلطة وتقاسم الموارد بين المناطق ومستويات الحكومة أن يساعد في الحد من نهج “الفائز يأخذ كل شيء” في السعي للوصول إلى السلطة العليا، ومن شأن المنافسة على المؤسسات التي تركز السلطة والموارد في أيدي قليلة أن تتبدد وتخفّ حدتها. كما يقترح البعض أن تضمين الحكم المحلي الموسع كجزء من اتفاق السلام في ليبيا قد يكون آلية لبناء الثقة، عن طريق منع أي طرف أو منطقة من احتكار السلطة.

 وقد تم طرح موضوع الحكم المحلي كوسيلة لحل النزاع في ليبيا مرارًا وتكرارًا من قبل المشاركين في حوارات مبادرة “صناع السلام” مع القادة الاجتماعيين والسياسيين والمثقفين في البلاد. يعد توزيع السلطات والموارد أمرًا أساسيًا لبناء سلام دائم عادل وشامل ومستدام في ليبيا وهو ما عبر عنه العديد من المشاركين في هذه الحوارات، وكذلك الخبراء الذي تحدثنا معهم أثناء إعداد هذه الورقة. ومن الواضح ان فكرة إعادة تشكيل دولة تتسم بدرجة عالية من المركزية في ليبيا، مثل دولة ما قبل 2011، لن تعالج المظالم وتحقق المطالب التي ينادي بها الليبيون.

ثالثا، أدت الحرب في ليبيا إلى اللامركزية الفعلية على أرض الواقع في الكثير من المحليات وأنتج الصراع السياسي والعسكري استقطابا عميقا وتعددا لمراكز القوى. وقد طورت بعض المحليات أشكالها الخاصة من الحكم المحلي، واكتسبت البلديات صلاحيات وموارد جديدة بموجب القانون، وتمارس القبائل أيضًا دورًا مهمًا مع تقلص نفوذ الدولة المركزية. وفي الواقع، الحكم المحلي منقسم بين عدة أطراف ومؤسسات مدنية وعسكرية وقبلية، فيتم ممارسة السلطة المحلية عبر البلديات في بعض المناطق، وفي البعض الآخر بأشكال أخرى، ومن الصعب تصور العودة إلى الحكم شديد المركزية في ضوء كل هذه التغيرات.

ولكن عن أي حكم محلي نتحدث؟ من الواضح أن هناك مجموعة من الرؤى المختلفة، والمتضاربة في كثير من الأحيان، حول نموذج الحكم المحلي الذي سيكون الأفضل لليبيا.

تعتمد هذه الورقة على العديد من المقابلات مع أطراف متعددة في ليبيا منهم خبراء في الحكم المحلي وأكاديميين وممثلين لمكونات سياسية واجتماعية، وكذلك على ورشة عمل مع ممثلين ليبيين عُقدت في روما في فبراير 2024، بالإضافة إلى قراءة للدراسات المتوفرة عن تاريخ وواقع الحكم المحلي في ليبيا اليوم.

تكشف هذه المقابلات عن الرؤى المختلفة في المشهد السياسي والمجتمع المدني الليبي بشأن نظام الحكم المحلي الذي يمكن أن يلبي احتياجات وتطلعات الشعب الليبي ويدعم التماسك الاجتماعي والسياسي والإقليمي. في هذه الورقة، نقوم بتصنيف هذه الرؤى إلى ثلاث مجموعات رئيسية: مؤيدة للفدرالية، مؤيدة للامركزية الموسعة، ومؤيدة للمركزية. تتضمن كل مجموعة طيفًا من الآراء حول النظام الأمثل للحكم المحلي، والذي يمكنه تحقيق التوازن بين مناطق ليبيا، مع مراعاة الخصوصيات الوطنية والمحلية، ومنح السلطات والمجتمعات المحلية القدرة على المشاركة في إدارة الشؤون المحلية والوطنية، مع الحفاظ على وحدة الدولة الليبية وتعزيزها.

ومن المهم أن نذكر هنا أن اللامركزية في سياق ما بعد الصراع تنطوي على تعقيدات خاصة. إن مواضيع اللامركزية والحكم المحلي أصبحت حساسة للغاية في السياق الحالي، وحتى المصطلحات نفسها محل نقاش وخلاف حاد. وفي حين تستخدم بعض الأطراف مصطلح “اللامركزية” للإشارة إلى نقل السلطات والموارد إلى المستوى دون الوطني، فإن البعض الآخر يرفض هذا المصطلح تمامًا على أساس أنه لا يعني سوى شكل مخفف من الحكم المركزي. إذا لا يوجد إجماع حول المصطلحات التي يجب استخدامها، ناهيك عن محتواها ومعانيها، وغالبا ما يستخدم نفس المصطلح بطرق مختلفة. وكثيراً ما تؤدي هذه الاختلافات حول المصطلحات إلى الانسداد في أي نقاش حول الحكم المحلي.

تركز هذه الورقة على التعريفات والمعاني والأبعاد المختلفة للامركزية والحكم المحلي. تبدأ بتوضيح وتعريف المصطلحات المختلفة المتعلقة بالحكم المحلي، قبل الانتقال إلى دراسة تاريخ الحكم المحلي في السياق الليبي وآراء الفاعلين السياسيين والاجتماعيين الليبيين فيما يتعلق بنظام الحكم المحلي المستقبلي.

تُعد هذه الورقة الأولى ضمن سلسلة أوراق حول مستقبل الحكم المحلي في ليبيا، حيث تركز كل ورقة على جانب مختلف من جوانب الحكم المحلي، مثل مستويات الحكومة، وتوزيع السلطات، وتوزيع الموارد. من خلال توضيح المفاهيم، ورصد المواقف، والاستفادة من تجارب من سياقات أخرى، نسعى إلى تنشيط الأفكار وخلق مساحة للحوار بين الليبيين، لتمكينهم من دراسة وتقييم الخيارات المختلفة المتاحة لهم، وما تحمله من مخاطر ونتائج محتملة، بهدف الوصول إلى نظام حكم محلي يلبي احتياجات وتطلعات الشعب الليبي.

تحميل الملف

1. المصطلحات

1.1        تعريف اللامركزية

في البداية، نعرف اللامركزية كنظام او عملية لتوزيع أو إسناد صلاحيات الى وحدات محلية تتمتع بالاستقلالية أو شبه الاستقلالية، مما يعني:

  • تتمتع بالشخصية الاعتبارية
  • تتمتع بدرجة كبيرة من الاستقلال المالي والإداري) بما فيه التمتع بمواردها المالية الخاصة(
  • تتمتع بسلطة اتخاذ القرار السياسي لإصدار قراراتها الخاصة واستخدام مواردها دون الحاجة إلى موافقة مسبقة من السلطات المركزية
  • لا تخضع للسيطرة المباشرة للحكومة المركزية – تخضع فقط لرقابة لاحقة، وليست مسبقة
  • تمثل سكان المنطقة (وليس الدولة المركزية)

 يستعمل لفظ اللامركزية لوصف أنظمة مختلفة يمكن أن تكون موحدة أو فدرالية.  وقد انخرطت أغلب بلدان العالم في شكل من أشكال اللامركزية في إدارة الشأن العام في العديد من المجالات. تقوم اللامركزية على فكرة القرب لأنه من المتوقع أن يؤدي تقريب القرارات من المستوى المحلي إلى تقديم خدمات أفضل وتدخلات أسرع، وتعبئة أفضل للموارد، وزيادة المساءلة، ونسبة مشاركة أعلى للمواطنين، علاوة على تحقيق أهداف اخرى.

يوجد لفظ “الإدارة المحلية” في النظام الليبي ويختلف عن اللامركزية من ناحيتين: في نظام الإدارة المحلية، تؤدي الوحدات المحلية[1] مهامها تحت إشراف السلطة المركزية وتتمتع بقدر محدود جدا من الصلاحيات والموارد. هذان العنصران (الرقابة المباشرة من المركز وتوزيع السلطات والموارد) يميزان اللامركزية عن اللامحورية، كما هو موضح بمزيد من التفصيل في القسم التالي.

1.2        الفرق بين اللامركزية واللامحورية

لا بد هنا من التمييز بين فكرتي اللامركزية واللامحورية، وكثيرا ما يتم الخلط بينهما.

 تقوم اللامركزية (decentralization) على تمتيع الجماعات المحلية باستقلالية إدارية ومالية يجب تضمينها في الدستور والقوانين ذات الصلة. ويقوم النظام اللامركزي – سوى في نظام موحد أو فدرالي – على أساس توزيع صلاحيات اتخاذ القرار، وليس فقط صلاحيات تتعلق بالتنفيذ وهذا ما يميز اللامركزية عن اللامحورية. تمنح اللامركزية السلطات المحلية صلاحيات أكبر لتقرر بنفسها سياساتها الخاصة بشأن كيفية إنفاق الموارد وكيفية تقديم الخدمات.

بينما يمكن تعريف نظام اللامحورية ((deconcentration كأسلوب في التنظيم الإداري يتمثّل في تفويض أو إسناد مسؤوليات لفروع أو هياكل ترابية تابعة للسلطة المركزية، ويمكن اعتبار هذه الهياكل الترابية كوكالات للدولة المركزية (delegate/agent) التي يفوض اليها مهام (delegation) تعود الى الأصل (المركز). ويمكن للسلطة المركزية انهاء التفويض وارجاع السلطة الى المستوى المركزي في أي وقت. مثلا، يمكن أن تقوم أي وزارة بإنشاء هياكل محلية تابعة لها لتقديم الخدمات للمواطنين على المستوى المحلي، ويتم تعيين موظفيها ووضع سياساتها من طرف الوزارة، التي يمكن لها أن تحد من صلاحيات الهياكل أو حتى ان تقوم بحلها.

فبالتالي، يوجد فرق كبير بين اللامركزية واللامحورية، يتعلق أساسا بنقل سلطة اتخاذ القرار السياسي، والاستقلالية المالية والقانونية والإدارية.

1.3        الفدرالية

تعتبر الفدرالية نمطا من أنماط اللامركزية وهي واحدة من أهم أنواع أشكال الحكم على امتداد العالم أجمع؛ إذ انّ السلطات في الدولة الّتي تتّبع هذا النظام تكون مقسّمة بموجب الدستور إلى حكومة فيدراليّة وحكومات لكلّ ولاية أو إقليم؛ حيث إنّ كلا هذين القسمين يعتمدان على بعضهما البعض، ويتضافران ليحيطا بكافّة مسؤوليات الدولة. ومن أبرز دول العالم التي تتبع هذا النظام النّمسا، والأرجنتين، وأستراليا، والولايات المتّحدة الأمريكيّة، وبلجيكا، والبوسنة والهرسك، والإمارات العربية المتحدة، وكندا، والبرازيل، وألمانيا، والهند، وجزر القمر، وإثيوبيا، وماليزيا والعديد من الدول الأخرى.

 من أهمّ وأبرز السمات الّتي تميز الدولة الفيدرالية (وتسمى أيضا الدولة الاتحادية) أن يتم تقسيم السلطات دستوريا بين حكومة فدرالية أو مركزية وحكومات إقليمية أو محلية تتمتع بقدر كبير من الاستقلال الذاتي. هذا يعني أن توزيع السلطات لا يمكن تغييره بسهولة، وعادة ما يتطلب تعديلًا دستوريًا. وعامة، تتمتع السلطات المحلية بصلاحيات تشريعية أو\وقضائية، ويتم تحديد صلاحيات السلطات الفدرالية والسلطات المحلية في الدستور. ولهذا السبب تعرف الدولة الفدرالية بالتعدد في الأنظمة القانونية بينما تتسم الدولة الوحدوية بوحدة القانون في كامل ترابها.

والجدير بالذكر انه توجد دول فيدرالية مركزية كما توجد دول فيدرالية لامركزية. وبالمثل، يمكن أن تكون الدول الموحدة إما مركزية أو لامركزية. ويحيلنا ذلك إلى أهمية التركيز على العمق الفعلي للامركزية – توزيع الصلاحيات والموارد – بغض النظر عن التسميات.

1.4        أبعاد اللامركزية

تتمثل اللامركزية في ثلاثة أبعاد رئيسية، وهي:

  • اللامركزية الإدارية أو الوظيفية administrative / functional decentralization: توزيع الاختصاصات\المهام بين السلطة المركزية من ناحية ووحدات لا وطنية مستقلة من ناحية أخرى.
  • اللامركزية السياسية political decentralization: اختيار المسؤولين المحليين على المستوى المحلي (عوضا عن تعيينهم من المركز) عادة عن طريق انتخابات تسمح للمواطنين باختيار ممثليهم والتعبير عن أولوياتهم ومحاسبة المسؤولين المحليين.
  • اللامركزية المالية fiscal decentralization: تمتيع السلطات المحلية ب (1) صلاحيات القرار في التصرف في الموارد; (2) صلاحيات استخلاص الموارد ; (3) صلاحيات فرض ضرائب أو أداءات جديدة; و(4) إعطاء المستوى المحلي نسبة أكبر من الموارد المستخلصة على المستوى الوطني.

الشكل 1: تعريفات اللامركزية السياسية والإدارية والمالية

OECD, Making Decentralisation Work: A Handbook for Policy-Makers, 2019المصدر:

1.5        الاستقلالية المحلية: الرقابة اللاحقة مقابل الرقابة المسبقة

يجب هنا ذكر انه، في أي عملية مرتبطة باللامركزية حيث يتم تمتيع السلطات المحلية بالاستقلالية القانونية والادارية، ينبغي ازالة الرقابة المسبقة او “الوصاية” عن المجالس المحلية المنتخبة، كما فعلت المغرب وتونس بدرجة كبيرة. يمكن التمييز هنا بين صلاحيات الرقابة القبلية واللاحقة. إن الرقابة القبلية أو المسبقة تجعل قرارات السلطات المحلية ومحاضرها وميزانياتها خاضعة لموافقة مسبقة من السلطات المركزية حتى تكون نافذة. على سبيل المثال، إذا لم تتمكن بلدية أو محافظة أو مقاطعة من اعتماد ميزانيتها السنوية رسميًا دون الحصول على موافقة مسبقة من الحكومة المركزية أو المحافظ، يعد هذا نوعا من الرقابة القبلية. أما الرقابة اللاحقة فتعني الرقابة القانونية والرقابة المالية على قرارات السلطات المحلية بعد صدورها ويمكن أن يتم ذلك من قبل الحكومة المركزية أو جهاز الرقابة المالية أو السلطة القضائية.

في الأنظمة شديدة المركزية المعمول بها في معظم أنحاء العالم العربي، تخضع السلطات المحلية لرقابة مسبقة من قبل السلطة المركزية وينص القانون على أن قرارات وموازنات السلطات المحلية لن تكون صالحة دون الحصول على إذن مسبق من السلطات الوطنية، كما يسمح للمحافظين بالتدخل في عمل البلديات ومجالس المحافظات. وهذا يعطي السلطة المركزية، وخاصة وزارة الداخلية ووزارة المالية، درجة كبيرة من السيطرة على السلطات المحلية.

في تونس، على سبيل المثال، تمتع الوالي تاريخيًا بدور مزدوج كممثل للدولة المركزية على المستوى المحلي وفي نفس الوقت كرئيس المجلس الجهوي (هيئة منتخبة تمثل المنطقة، وهي سلطة محلية). ولإنهاء هذه الحالة من الازدواجية التي مكنت السلطات المركزية من السيطرة على المستوى المحلي، نص دستور 2014 صراحة على أن “السلطات المحلية تخضع لرقابة لاحقة لتحديد مدى قانونية تصرفاتها” (المادة 138). يوضح هذا أن قرارات السلطات المحلية وإجراءاتها لا يمكن أن تخضع لشروط الموافقة المسبقة من السلطة المركزية، ولكن تخضع للرقابة اللاحقة المتعلقة فقط باحترامها للقانون (مراقبة اجرائية) ولكن لا تتعلق بجوهر أفعالها أو قراراتها.

ينطبق مبدأ الاستقلالية المحلية للأقاليم/المحافظات والبلديات أيضًا على العلاقة بين هذين المستويين. خلال المناقشات مع الأطراف الليبية، عبّر البعض عن فكرة أن اللامركزية ينبغي أن تبدأ بتحديد صلاحيات المناطق/المحافظات وإجراء انتخابات لها قبل تحديد صلاحيات البلديات. بل اقترح البعض أن تكون المناطق/المحافظات مسؤولة عن تحديد صلاحيات البلديات وحتى الإشراف عليها، إلا أن منح الاقاليم أو المحافظات صلاحيات الإشراف على البلديات يخلق مخاطر جدية على الحكم الذاتي للبلديات.

2        الإطار العام للحكم المحلي في ليبيا

2.1        النسق التاريخي

يخضع نظام الحكم المحلي في ليبيا لخصوصيات اجتماعية وجغرافية وثقافية تفرضها مجموعة من العوامل، وهي:

  • تنوع القبائل والعشائر والعروش التي تسكن كل قبيلة منها منطقة جغرافية وتتميز كل واحدة منها بخصوصيات ثقافية واجتماعية وتاريخية واختلافات في العادات والتقاليد.
  • العوامل الجغرافية: حجم ليبيا الكبير وتنوع أنظمتها البيئية بين الصحراء الإفريقية وسواحل البحر الأبيض المتوسط مع تركيز نسبة كبيرة من السكان في مساحة صغيرة.
  • النسق السياسي: محاولة كل الحكام الذين تداولوا على ليبيا منذ العهد العثماني إلى الحقبة الاستعمارية والملكية وكذلك في عهد معمر القذافي كسب ولاءات القبائل والعشائر والسيطرة عليها بجميع الوسائل كالإغراء والإخضاع بالقوة مما ساهم في تضخيم التنافس بينها لتسهيل بسط النفوذ عليها. كما كان له أيضا تأثير على التقسيم الترابي لليبيا حيث تم إحداث المحافظات والمناطق والبلديات والشعب اعتمادا على الحدود التاريخية لمناطق القبائل.

2.2        تطور نظام الحكم المحلي في ليبيا

الحكم المحلي ليس حديثا في ليبيا ويعود تاريخه إلى عدة قرون. في ظل الحكم العثماني منذ عام 1551، خضعت ليبيا لعملية إعادة تنظيم إداري كبيرة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر بعد إعادة تأسيس الحكم المباشر في عام 1835. وأعاد قانون الولايات لعام 1864 تنظيم التراب الليبي إلى محافظات (ولايات) ومناطق محلية (سناجق). في عام 1871، أنشأ قانون إدارة المحافظات المعدل البلدية كوحدة إدارية، لكل منها عميد ومجلس بلدي استشاري.

بعد بداية الاستعمار الإيطالي عام 1911، خضعت المحافظات الليبية لعملية إعادة تنظيم مرة أخرى. تم إدخال نظام المجالس المحلية ذات السلطات المحدودة ولكن سرعان ما تم إلغاؤه. وبعد نهاية الاستعمار عام 1951، تم إنشاء نظام ملكي فيدرالي بقيادة الملك إدريس، يتكون من ثلاث أقاليم تتمتع بالحكم الذاتي، وهي إقليم برقة، وإقليم طرابلس، وإقليم فزان. تم تغيير دستور سنة 1951 في 26 أبريل 1963، حيث تم إلغاء النظام الفيدرالي وإعادة تنظيم المحافظات الثلاث إلى 10 محافظات.

بعد صعود معمر القذافي إلى السلطة في انقلاب عام 1969، شهد الحكم المحلي العديد من التغييرات وفقًا لفكرة “الإدارة الشعبية”. شهدت هذه الفترة اضطرابات في تنظيم الوحدات الإدارية وتقسيمها بين المحافظات والبلديات والفروع البلدية. كانت السلطات المحلية، بجميع أشكالها وأنواعها، تخضع لولاء كامل للسلطة المركزية القائمة، التي كانت تمتلك صلاحيات مطلقة لتقسيم المحافظات ، وتحديد أشكالها، والتحكم في حدودها وتعيين المسؤولين عنها.

انخراط الشعب الليبي في انتفاضة سنة 2011 طرح مطالب جديدة بمعالجة التهميش وضعف الخدمات في مختلف المناطق وبالتوزيع العادل للموارد. أدت الانتفاضة إلى محاولات لبناء مؤسسات مركزية ومحلية تعتمد على انتخابات حرة ومباشرة. وقد تجسد ذلك في انتخاب المجلس الوطني وفي تموز\يوليو 2012 أصدر المجلس الوطني الانتقالي القانون رقم 59 لسنة 2012 بشأن نظام الإدارة المحلية وصدرت لائحته التنفيذية في نيسان\أبريل 2013. وتم إنشاء 99 بلدية وعقد انتخابات بلدية في 2014 لأول مرة في تاريخ ليبيا لكنها سرعان ما وجدت نفسها تواجه عدة تحديات منها انعكاسات الحرب الاهلية والانقسام في مؤسسات الدولة ووجود وزارتين للحكم المحلي، كما سيتم مناقشته في القسم التالي.

2.3        القانون رقم 59 لسنة 2012

يمثل القانون 59 لسنة 2012 بشأن نظام الادارة المحلية الإطار القانوني الرئيسي لتنظيم الحكم المحلي في ليبيا حاليا. ويشرع القانون لمستويين من الحكم المحلي وهما المحافظات والبلديات التي تتمتع بالشخصية القانونية والذمة المالية المستقلة وينص القانون على انتخاب مجالس المحافظات والبلديات.  وصدرت عدة قرارات تنظيمية استناداً إلى هذا القانون ولائحته التنفيذية، تتعلق معظمها بالبلديات ومهامها وهيكلتها الإدارية ومواردها المالية. وهنا نلاحظ أن المشرع اعتبر المحافظات والبلديات إدارة محلية وليست سلطة محلية.

كما يمكننا أن نتساءل عن مفهوم الاستقلالية في ظل الخضوع لإشراف الحكومة المركزية. كمثال، تنص المادة 4 من القانون أن وحدات الإدارة المحلية تمارس اختصاصاتها ”تحت الإشراف المباشر للمحافظ“ وتنص المادة 23 على أن للمحافظ في علاقته مع البلديات «الحق في إصدار… تعليمات… واجبة النفاذ» مما قد يفرغ مبدأ استقلال الجماعات المحلية من كل مضمون. وينص القانون على إمكانية حجب الثقة من عميد البلدية بقرار من مجلس المحافظة.[2]   كما أن تركيبة مجلس المحافظة من أعضاء منتخبين يترأسهم محافظ يتم تعيينه ويعزل من طرف السلطة المركزية يطرح أسئلة حول استقلالية هذه المجالس.

وتبقى صلاحيات الوحدات المحلية محدودة في القانون، تقتصر على تنظيم عمليات جمع النفايات، والتنظيف، وإدارة الحدائق والمنتزهات، وتنظيم الأسواق والأماكن العامة، وصيانة الشوارع. تم إنشاء المجلس الأعلى لنقل الصلاحيات في طرابلس الذي يضم العديد من الوزراء للنظر في نقل الصلاحيات للبلديات وتم على إثره إمضاء بعض الاتفاقيات بين وزارة الحكم المحلي ووزارات أخرى (التعليم، الصحة، التخطيط، الخ) لمتابعة عملية نقل الصلاحيات. ولكن بالرغم من النقاش الكبير الذي دار حول نقل المزيد من الصلاحيات الى السلطات المحلية، بقي التقدم في هذا المجال محدودا.[3]

بالنسبة لموارد البلديات، يترك القانون التفاصيل الى لائحة يتم إصدارها بقرار من وزير الإدارة المحلية بالتنسيق مع وزير المالية. وأصدر رئيس حكومة الوحدة الوطنية قرارا في يوليو 2021 يقضي باعتماد الرسوم والعوائد ذات الطابع المحلي،[4] وشملت هذه المصادر «رسوم الخدمات ذات الطابع المحلي، المخالفات والغرامات المرورية، عوائد استغلال الفضاء العام، الرسوم على المحررات التي تصدرها البلدية»، إضافة إلى “عوائد الخدمات المحلية، مخالفات وغرامات الحرس البلدي، وعوائد إيجار واستثمار العقارات الواقعة في البلدية“.

و أصدر مجلس الوزراء بحكومة الوحدة الوطنية لائحة نظام الإيرادات المحلية الجديد في 2021 الذي أتاح للبلديات، لأول مرة، سلطة تحصيل إيرادات محلية بنفسها.[5] تنظم اللائحة آليات تحصيل الرسوم ذات الطابع المحلي وكيفية التعامل مع تلك الإيرادات. ونصت اللائحة على أن تتولى كل بلدية إعداد مشروع ميزانيتها السنوية على أساس الإيرادات المحلية التي تقوم بتحصيلها، وفقا للطرق المعتمدة من الوزارة، على أن يعرض مشروع الميزانية على الأمانة العامة، وتتولى الوزارة تقديمه لوزارة الشؤون المحلية.  وتلزم اللائحة البلديات بنشر الميزانية التقديرية وتقرير المصروفات وفق نموذج ميزانية المواطن عن طريق جميع وسائل الإعلام المتاحة. وعملت الحكومة على فتح حسابات للبلديات لتجميع الإيرادات المحلية. وحسب البيانات المتاحة، ساهمت هذه القرارات في الرفع من الموارد البلدية ومكنت عددا من البلديات من جمع موارد ذاتية أكبر من الموارد التي تحول لها من الحكومة المركزية[6]، مع وجود تقدم ملحوظ في أداء عدد من البلديات وقدرتها على حل النزاعات وسد الثغرات الناتجة عن عدم قدرة الدولة المركزية على تقديم الخدمات.[7]

على مستوى المحافظات، لم يتم حتى الآن إنشاءها بسبب وجود نزاعات ذات طابع جهوي وقبلي بالنسبة لحدود المحافظات. تم طرح عدة مقترحات حول انشاء بين 10 و18 محافظة ولكن تم رفضها من بعض المكونات[8] وبقي القانون رقم 59 شبه معطل بالنسبة لإنشاء مجالس المحافظات ولم تطبق سوى الفصول المتعلقة بالبلديات. و قد أدى غياب المحافظات الى صعوبات في التنسيق بين الوزارات والبلديات، مع غياب المحافظات كهيكل وسيط.[9] كل هذه التحديات كانت ولا تزال تشكل عائقاً كبيراً أمام تطبيق القانون رقم 59 مع وجود قوانين أخرى سابقة تعيق تنفيذه.

تعبر الأطراف السياسية والاجتماعية في ليبيا عن عدة وجهات نظر بخصوص القانون 59. ففيهم من يرى أن القانون يلبي احتياجات المرحلة الانتقالية الحالية ويوفر إطارا مناسبا لنقل الصلاحيات والموارد الى المستوى المحلي بتدرج. ويرى المؤيدون للقانون أن المشكلة الرئيسية هي عدم تنفيذ القانون وليس محتوى القانون نفسه. بينما يرى منتقدو القانون 59 أنه لا يمكن اعتباره إطارا لحكم محلي “حقيقي”، ويعتبرون انه يؤسس ل”إدارة محلية” ذات صلاحيات محدودة تحت إشراف الحكومة المركزية.

ويرى منتقدو القانون أن الحكم المحلي الحقيقي يحتاج الى (1) صلاحيات واسعة، (2) نقل دائم للسلطات (المنصوص عليها في دستور) والتي لا يمكن للحكومة المركزية إلغاءها أو تغييرها، وأخيرا (3) تقليص سلطة الحكومة المركزية في التدخل في الشؤون المحلية.

2.4        الحكم المحلي في مشروع مسودة الدستور

يحتوي مشروع الدستور التي تم صياغته واعتماده من طرف الهيئة التأسيسية لصياغة مشروع الدستور في 2017 عن باب كامل عن الحكم المحلي، وهو الباب السادس. وينص الباب السادس في المادة 144 على ثلاثة مستويات من الحكم: المركز، المحافظات والبلديات.

 هناك من يرى في الباب السادس اطارا مناسبا للتأسيس للامركزية “موسعة” وأن النص لا يضع أي قيود على صلاحيات الجماعات المحلية. بينما يرى البعض الآخر أن المصطلحات الواردة في الباب السادس غير واضحة وتسمح للسلطة المركزية بالتحكم في عملية اختيار ونقل الصلاحيات، مما قد يؤدي الى استمرار المركزية الشديدة. وقد عبر البعض عن رفضهم للمسودة لأنها لا تعترف بـما يعتبرونه “المقاطعات التاريخية الثلاثة“، وفق تعبيرهم.

3        آراء الاطراف الليبية حول شكل الدولة

3.1        أي نظام حكم؟

استنادًا إلى المقابلات وورشة العمل، يمكننا تحديد ثلاث مجموعات رئيسية من الآراء حول نظام الحكم المحلي المستقبلي بين الفاعلين السياسيين والاجتماعيين في ليبيا: (أ) الآراء المؤيدة للفيدرالية، (ب) الآراء المعارضة للفيدرالية والتي تفضل نظامًا مُعدلًا ل”اللامركزية الموسعة”، و(ج) الآراء المعارضة للفيدرالية التي تفضل العودة إلى نظام مركزي للحكم.

يقترح مؤيدو “اللامركزية الموسعة” إعطاء السلطات المحلية المزيد من الصلاحيات والموارد في إطار دولة موحدة يخضع مواطنوها لسلطة تشريعية واحدة ولدستور واحد وحكومة واحدة وسلطة قضائية واحدة.

في المقابل، يقترح البعض فكرة الفدرالية، نظرا لتنوع المجتمع الليبي ومساحة البلد وتنوعها الجغرافي، ويرى هؤلاء ان النظام المركزي تسبب في تهميش العديد من المناطق ودعم الاستبداد والحكم الفردي المطلق. وترى هذه المجموعة في الفدرالية سبيلا لحل الصراع على السلطة عن طريق توزيع السلطة على عدة مستويات، بينما يرفضون مصطلح “اللامركزية” على أساس أنه غامض ولا يؤسس لسلطات محلية قوية ويعطي للحكومة المركزية سلطة تفسير اللامركزية وتحديد محتواها.

ويتم تعريف الفدرالية، من طرف مناصريها، كنظام تعطى فيه صلاحيات دستورية واسعة للمحافظات\المقاطعات\الاقاليم مع الاحتفاظ ببعض الوظائف السيادية للدولة المركزية، ويتم تأسيس مؤسسات تنفيذية وتشريعية منتخبة في كل محافظة\مقاطعة\إقليم، والتي تتمتع بجميع الصلاحيات التي لم يمنحها الدستور للدولة المركزية. واقترح البعض أن تقوم برلمانات المحافظات\المقاطعات\الاقاليم بانتخاب حكومات محلية وتعيين رؤساء وزراء ومساءلتهم، بينما يمارس البرلمان الفيدرالي السلطات التشريعية الفيدرالية، ويتألف من ممثلين منتخبين بناءً على نسبة السكان في كل محافظة\مقاطعة\اقليم (وهناك من يقترح أخذ مساحة كل محافظة\مقاطعة\اقليم بعين الاعتبار في تحديد نسبة التمثيل في البرلمان الفيدرالي).

في المقابل، هناك من يرفض الفدرالية تماما ويرفض فكرة منح الأقاليم مؤسسات تنفيذية وتشريعية وقضائية مستقلة للأسباب التالية: ضعف وانقسام الدولة المركزية، ضعف الموارد البشرية على المستوى المحلي، التكلفة المادية لإنشاء برلمانات وحكومات محلية، هشاشة مؤسسات الدولة والتخوف من تفكك الدولة أو انفصال بعض المناطق.

تدعو المجموعة الثالثة (المعارضة للفيدرالية والمؤيدة للمركزية) إلى العودة إلى نظام مركزي. ويؤكدون على مخاطر اللامركزية في ظل التشتت المؤسسي والإقليمي الحالي، ويرون أن إعادة المركزية ضرورية قبل النظر في توسيع الحكم المحلي. ويقترحون أن المطالب بالمساواة بين المناطق يمكن أن تتحقق من خلال تحسين الخدمات العامة والبنية التحتية في المناطق المهمشة، وتعزيز مؤسسات الدولة المركزية على المستوى المحلي.

3.2        مخاطر اللامركزية

تم استخدام كل من الفيدرالية واللامركزية في اطار دولة موحدة كحلول في عدة بلدان مرت بحروب، لتوحيد المجتمعات المنقسمة عبر ترتيبات لتقاسم السلطة بين المناطق وبين مكونات اجتماعية وسياسية. وهذا يعني منح درجة من الاستقلالية للسلطات المحلية بحيث تتمكن المكونات المختلفة من المشاركة في سلطة صنع القرار، ولكنه يعني أيضاً وضع ترتيبات لتقاسم السلطة على المستوى المركزي. غالبًا ما تكون المطالب بتوزيع عادل للسلطة والموارد ليست مجرد مطالب بنقل السلطة بعيدًا عن المركز، بل أيضًا للمشاركة في السلطة داخل المركز نفسه.[10]

يجدر بالذكر أن اللامركزية، مثلها مثل المركزية، تحمل في طياتها بعض المخاطر. وهناك أيضًا مخاطر خاصة ترتبط بتطبيق اللامركزية في مرحلة ما بعد الصراع. وقد طرح الأطراف الليبيون عدة تحديات ومخاطر رئيسية متعلقة بإصلاح نظام الحكم المحلي في ظل الوضع الحالي، ويمكن تلخيصها فيما يلي:

  • الانفصال والانقسام والتفتت – المخاوف من أن يؤدي منح استقلالية أكبر للوحدات المحلية إلى زيادة التفتت، والصراعات بين المناطق، بل وحتى الانفصال في ظل الانقسامات في مؤسسات الدولة وتأثيرات الصراع السياسي والعسكري، والتوترات بين المكونات الاجتماعية والسياسية ، خصوصًا إذا تم إنشاء وحدات محلية كبيرة وقوية.
  • الاضطرابات الاجتماعية – المخاوف من أن يؤثر الحكم المحلي سلبا على السلم المجتمعي، خاصة عندما يتم طرح قضايا حساسة مثل إعادة ترسيم الحدود الإدارية وتوزيع عائدات النفط.
  • نقص القدرات المؤسسية – المخاوف من أن السلطات المحلية تفتقر الى القدرة على تحمل مسؤوليات أو إدارة موارد ، بسبب:
  • ضعف التنسيق بين الحكومة المركزية والسلطات المحلية.
  • ضعف البنية المؤسسية على المستوى المحلي، سواء على مستوى المحافظات أو البلديات.
  • نقص الموارد البشرية المؤهلة لإدارة الخدمات والموارد المحلية بفعالية، لا سيما في المناطق النائية والريفية.
  • تعميق التفاوت بين الأقاليم – نظرا لتاريخ المركزية في ليبيا والتوزيع غير المتساوي للموارد بين الأقاليم، تعاني بعض منها من فجوات كبيرة في الخدمات العامة والبنية التحتية. وتوجد مخاوف من أن هذه الفجوات قد تتسع إذا مُنحت السلطات المحلية صلاحيات ومسؤوليات أكبر، مما قد يمكّن المناطق الأكثر ازدهاراً من التقدم بسرعة أكبر، بينما تبقى المناطق المهمشة متأخرة.
  • استحواذ النخب على السلطة المحلية – في حال توزيع أكبر للسلطات والموارد في ظل ضعف آليات الرقابة والمحاسبة، هناك مخاوف من زيادة انتشار الفساد، وهيمنة بعض المكونات الاجتماعية على السلطة المحلية على حساب مكونات أخرى، وازدياد نفوذ الجماعات المسلحة.
  • إثارة الخلافات الاجتماعية والعرقية – المخاوف من أن تؤدي اللامركزية إلى تأجيج الفوارق الاجتماعية والعرقية، ما قد يتسبب في نشوب نزاعات محلية مما قد يجعل السلطات المحلية غير قادرة على الحكم.
  • نقص الموارد المالية – غياب مصادر كافية لتمويل السلطات المركزية والمحلية في حال اعادة توزيع الإيرادات، خاصةً إذا تم إنشاء العديد من المؤسسات المحلية الجديدة.
  • العودة إلى المركزية – المخاوف من أن “نافذة الفرص” لتحقيق اللامركزية قد تُغلق ما لم يكن توسيع الحكم المحلي وضماناته جزءًا من تسوية السلام، ما قد يدفع ليبيا للعودة إلى نظام مركزي مشدد.

تؤكد بعض الأطراف على ضرورة إعطاء الشعب الليبي فرصة لابداء رأيه حول نظام الحكم المحلي الجديد أو جوانب محددة منه. فعلى سبيل المثال، يرى البعض أنه لا بد من إلزام الحكومة الانتقالية المستقبلية بإجراء استفتاء عام لتحديد النظام السياسي (موحد أو فيدرالي) كما يقترح البعض عقد استفتاءات محلية حول التعديلات المقترحة في حدود الوحدات المحلية. لا بد من اجراء نقاشات معمقة حول هذا الموضوع لما يحمله من مخاطر مثل اثارة النزاعات .

3.3         اللامركزية ما بعد الصراع

لا توجد دراسات أو تجارب تثبت بشكل قاطع ما إذا كانت المركزية أو اللامركزية الموحدة أو الفيدرالية أكثر فعالية في توحيد مجتمعات ما بعد الصراع. وقد تمكنت بعض الدول من الحفاظ على وحدتها في شكل الفيدرالية في مرحلة ما بعد الصراع مثل العراق، ونيجيريا، ونيبال، والبوسنة. ومع ذلك، فإن إنهاء العنف لا يعني إنهاء الصراع في اشكاله العدة، ولا يزال العديد من هؤلاء يعانون من انقسامات اجتماعية عميقة. بالإضافة الى ذلك، فقد ثبت أن تطبيق اللامركزية أمر بالغ الصعوبة، خاصة في العالم العربي، بسبب مقاومة الحكومات المركزية والبيروقراطيات لنقل السلطات والموارد إلى سلطات محلية منتخبة. على الرغم من أن العديد من الأحزاب والقادة السياسيين يطرحون اللامركزية كشعار في كثير من المحطات السياسية، إلا أن العديد منهم قد يترددون في تنفيذ اللامركزية عندما يجدون أنها تقلل من صلاحياتهم ونفوذهم. بالإضافة إلى ذلك، يمكن للجهات الفاعلة الإقليمية استخدام اللامركزية لممارسة شكلها الخاص من المركزية على المستوى المحلي. كما يلاحظ شو وهوج، فإن “اللامركزية …ليست فقط مجموعة من المؤسسات والترتيبات القانونية، بل أيضا عقلية… في كلا الانظمة الوحدوية والفدرالية تحتاج الحكومة المركزية إلى إيجاد حل وسط بين العوامل الطاردة والعوامل الموحدة في البلاد لتحقيق الادماج الوطني.”[11].

ومن الأمثلة على الصعوبات التي تواجه التوصل إلى حل وسط بين مختلف الجهات الفاعلة بشأن نظام الحكم هي جنوب أفريقيا. يُعرّف الأكاديميون والخبراء النظام الدستوري في جنوب إفريقيا بأنه “موحد مع عناصر الفيدرالية” أو “شبه فيدرالية”. ومع ذلك، فإن دستور عام 1994 لا يحدد طبيعة دولة جنوب أفريقيا ولا يوجد مصطلح “الفيدرالية” في النص بتاتا. خلال المفاوضات الدستورية، دافع حزب المؤتمر الوطني الأفريقي بقوة عن دولة موحدة ذات مركزية قوية لمعالجة التفاوتات الهائلة بين المواطنين السود والبيض وارتفاع معدلات الفقر في المناطق ذات الأغلبية السوداء. ومن ناحية أخرى، أيد البعض في الحزب الوطني ذي الأغلبية البيضاء بقوة النظام الفيدرالي على أمل إنشاء مقاطعة خاصة بهم. كما دعم حزب إنكاثا للحرية النظام الفيدرالي بقوة على أمل قيادة مقاطعة تتمتع بالحكم الذاتي في كوازولو ناتال حيث يتمتعون بأغلبية عرقية لقبيلة الزولو. وفي النهاية، توصلت الأطراف على مضض إلى حل وسط لإنشاء شكل من أشكال الفيدرالية مع عناصر المركزية. اعتمد النظام بشكل كبير على النظام الدستوري الألماني، حيث تتمتع المقاطعات/الولايات بسلطات محمية دستوريًا ولكل مقاطعة هيئة تشريعية منتخبة وسلطة تنفيذية مسؤولة أمام المجلس التشريعي الإقليمي. ومع ذلك، يتعين على المقاطعات تنفيذ التشريعات الوطنية المتفق عليها وطنيا، وتظل معظم السلطات الضريبية في أيدي الحكومة الوطنية. وبالتالي، تشارك الحكومات الوطنية ودون الوطنية بشكل وثيق في عمل بعضها البعض، وتتقاسم معظم السلطات والوظائف.

ويوضح مثال جنوب أفريقيا أن المصطلحات التي نستخدمها – “الفيدرالية” و”الدولة الموحدة” – يمكن ان تحمل معاني واشكال مختلفة للحكم وتتضمن مجموعة واسعة جدًا من الخيارات. يمكن للنظام أن يجمع بين خصائص الفيدرالية بينما يكون موحدا، والعكس صحيح. بالإضافة إلى ذلك، قد يكون من غير الضروري تعريف نظام الحكم المحلي رسميًا باستخدام هذه المصطلحات. بدلاً من التركيز على المصطلحات، نوصي بإيلاء اهتمام وثيق للمسائل الجوهرية التالية: ما هي الصلاحيات والموارد التي سيتم تخصيصها لأي مستوى من مستويات الحكومة، ومتى وكيف؟ [12]

3.4        تقليل مخاطر اللامركزية ما بعد النزاع

وجود تنوع كبير في المجتمع الليبي منها الانتماءات القبلية والمناطقية، والتنوع الفكري والعرقي يطرح السؤال التالي: كيف يمكن الاتفاق على تقسيم إداري وتوزيع الصلاحيات والموارد بما قد يحد من النزاعات ويعزز السلم الاجتماعي والانتماء الوطني والمواطنة؟ نقترح أدناه عددًا من الطرق التي سعت بها بعض الدول إلى تنفيذ اللامركزية مع تعزيز الوحدة الوطنية.

3.4.1       تصميم الوحدات المحلية

إن تجارب اللامركزية في بلدان مختلفة تعطينا بعض المؤشرات حول الظروف التي قد تزيد أو تقلل من الصراع بين المجموعات في سياق تنفيذ اللامركزية. على سبيل المثال، تظهر الدراسات أن اللامركزية، وخاصة في شكل الفيدرالية، يمكن أن تزيد من احتمال ظهور الحركات الانفصالية إذا تم رسم الوحدات المحلية لتناسب المجموعات العرقية المركزة جغرافياً.[13] وهذا يعني أن تفويض السلطة إلى وحدات أقل من تلك الخاصة بالمجموعات الكبرى للهوية من غير المرجح أن يغذي السياسة الانفصالية الإقليمية. اختارت نيجيريا، على سبيل المثال، تشكيل وحدات لامركزية أصغر من المجموعات العرقية/الثقافية المركزة جغرافياً، لتجنب هذا الخطر، وتمكنت من الحفاظ على مجتمع شديد التنوع دينياً وعرقياً.[14] وبالتالي، لا يرتبط أي مستوى أو وحدة حكومية بمجموعة عرقية أو دين معين، ويتم ربط الحكم المحلي، في أذهان المواطنين، بمسائل تقديم الخدمات بدلاً من الهوية. وبالمثل، في رواندا التي شهدت حرباً أهلية في 1990ء1994، تم رسم الوحدات المحلية بطريقة تجمع بين المناطق الأكثر فقراً والأكثر ثراءً وتعزز التنوع العرقي لتعزيز إعادة التوزيع والتماسك الاجتماعي.

من أجل تقليل مخاطر الانفصال، اختارت بعض الدول نقل السلطات إلى أدنى مستوى من الحكم بدلاً من المستوى الإقليمي. فعندما تتمتع المحافظات أو الأقاليم بسلطات وموارد كبيرة، قد تكتسب قوة قادرة على تحدي الحكومة المركزية.[15] خلال عملية اللامركزية في إندونيسيا، تم نقل معظم السلطات إلى مستوى المدن والبلديات، وليس المحافظات، وذلك لتقليل مخاطر الحركات الانفصالية على وحدة الدولة.[16] وبالمثل، رغم أن جنوب أفريقيا اعتمدت نظاماً يحتوي على عناصر فدرالية، فقد اختارت هيكلاً يشبه “الساعة الرملية”، حيث يتشارك المستوى الأوسط (المكون من تسع محافظات) العديد من سلطاته التنفيذية والتشريعية مع الحكومة المركزية، بينما تم انشاء بلديات تتمتع بصلاحيات واسعة.

من أجل تقييد قدرة الوحدات المحلية على تحدي الحكومة المركزية، اعتمدت بعض الدول استراتيجية إنشاء عدد كبير من الوحدات على المستوى المحلي. فعلى سبيل المثال، اختارت كينيا، التي شهدت فترات من العنف السياسي، في دستورها لعام 2010 أن تنشئ عددًا كبيرًا من المقاطعات (47) لتحل محل نظامها الإقليمي السابق. وتتمتع هذه المقاطعات بصلاحيات تشريعية وتنفيذية في عدة مجالات. ومع ذلك، يجب التنبيه إلى أن وجود عدد كبير من الوحدات المحلية قد يقلل من قدرتها على خلق توازن مع الحكومة المركزية والحد من تركيز السلطة على المستوى الوطني.

3.4.2       وضع آليات رقابة فعالة على المستوى الوطني

تعد آليات الرقابة المركزية في غاية الأهمية لنجاح نظام الحكم المحلي والحفاظ على وحدة الدولة. في جميع الأنظمة، سواء كانت موحدة أو اتحادية، لا بد من خلق أنظمة رقابية على المستوى الوطني لضمان المساءلة وحسن التصرف والحد من مخاطر الفساد و “الاستيلاء” على السلطات المحلية من قبل نخب محلية لتحقيق مصالحها الخاصة.[17] وقد تتمتع السلطات الوطنية أيضًا بصلاحيات التدخل في عمل السلطات المحلية في حالات استثنائية محددة مثل الإفلاس.

وجدنا إجماعا بين المشاركين في البحث حول أهمية وضع آليات رقابية فعالة من المستوى المركزي إلى المستوى المحلي سواء في نظام لامركزي موسع أو فدرالي وأكد البعض على وجوب تحسين الرقابة على البلديات في النظام الحالي والصعوبات الموجودة في ظل الانقسامات والصراعات القائمة. وبالنسبة لمن يساند الفدرالية، تم اقتراح إنشاء هيئة رقابية اتحادية أو ديوان محاسبة او جهاز رقابة لهذا الغرض، ولكن البعض أكد على ضرورة عدم تدخل الحكومة المركزية إلا في حالة حدوث انتهاك او خرق جسيم للحوكمة.

لابد إذا من إنشاء أنظمة وطنية فعّالة للرقابة المالية والقانونية كجزء من عملية اللامركزية. يمكن ان تكون هذه الوسائل إدارية مثل إنشاء أنظمة الكترونية لجمع البيانات والمؤشرات عن اداء السلطات المحلية. [18] يجوز هنا إعطاء، كمثال، برنامج وزارة الشؤون المحلية في تونس التي أنشأت نظام لتمويل البلديات بناء على مؤشرات الأداء البلدي. وبموجب البرنامج، تحصل البلديات على جزء من تمويلها الوطني فقط إذا استوفت شروطًا معينة مثل احترام الإجراءات المالية والمواعيد النهائية لتقديم التقارير، وإشراك المواطنين في صنع القرار. [19] وهذا ينطوي على فائدة إضافية تتمثل في وضع مؤشرات موضوعية وشفافة للتحويلات الوطنية، بدلا من المعايير التقديرية الغامضة التي كانت موجودة في الماضي. كما اتخذت إندونيسيا، التي انطلقت في عملية اللامركزية في سنة 2000، خطوات لإدخال نظام رقابة مالية جديد يعزز الإدارة الشفافة للميزانية المحلية العامة، ويفرض ضوابط مالية صارمة ومؤشرات الأداء، إعداد التقارير المالية عن طريق برامج محاسبية، واعتماد نظام تدقيق جديد.

لا بد أيضا من ارساء رقابة قانونية فعالة عن طريق القضاء. في نظام لامركزي تتمتع فيه السلطات المحلية بالاستقلالية، لا يمكن للسلطات المركزية عمومًا الاعتراض على القرارات المحلية إلا إذا انتهكت هذه الاخيرة القانون، ومن خلال تقديم شكوى إلى المحاكم الإدارية. طالما تحترم السلطات المحلية القوانين والإجراءات، لا يجوز للسلطات المركزية، قانونًا، التدخل في قراراتها. إن المحاكم هي التي لها القرار النهائي عما إذا كانت السلطات المحلية قد تصرفت أم لا وفقًا للقانون وهذا يثير الحاجة إلى تعزيز المؤسسات القضائية، وخاصة المحكمة الإدارية، لتمكينها من إدارة عدد متزايد من القضايا. وقد تضمنت إصلاحات اللامركزية في تونس في هذا السياق توسيع المحكمة الإدارية، وإنشاء 12 فرعًا جهويًا للمحكمة لتكون قادرة على اصدار قرارات بشأن النزاعات بين مختلف مستويات الحكومة دون تأخير مفرط.[20]

3.4.3       عقد الانتخابات الوطنية قبل الانتخابات المحلية

تشير بعض الأبحاث إلى أنه عندما يتم إجراء انتخابات محلية في نظام فيدرالي جديد قبل عقد انتخابات وطنية، وعندما يوجد عدد قليل من الأحزاب الوطنية، فإن ذلك يؤدي إلى انقسامات إقليمية أكبر. وفي مثل هذه الحالة، قد لا يكون لدى السلطات الإقليمية أو البلدية أي حافز لدعم إجراء انتخابات وطنية، لأن هذه الانتخابات من شأنها أن تقلل من نفوذها. إن إجراء الانتخابات الوطنية أولاً يمكن أن يسهل أيضاً التحضير لعملية اللامركزية من خلال تشكيل حكومة وطنية تتمتع بالشرعية اللازمة لقيادة الإصلاحات.

وفي هذا السياق نفسه، من الأفضل، إن أمكن، إجراء انتخابات مجالس الاقاليم/المحافظات والمجالس البلدية في نفس الوقت، لتجنب إنشاء مستوى من الحكم له مصلحة في تأخير انتخابات المستوى الآخر. علاوة على ذلك، بما أن مجالس الاقاليم/المحافظات والمجالس البلدية قد تحتاج إلى العمل معًا، فمن الأفضل إجراء الانتخابات للمستويين في نفس الوقت بحيث تعكس ديناميكيات سياسية مماثلة. كما أظهرت الأبحاث أن إجراء الانتخابات على مستويين في نفس الوقت يزيد من إقبال الناخبين، ما قد يعزز من شرعية الهيئات المنتخبة.[21]

3.4.4       وضع ضمانات للأقليات

السماح للسلطات المحلية بالتعدي على حقوق أقليات أو فئات اجتماعية في مناطقها، سواء كانت عرقية أو لغوية أو قبلية، قد يؤدي إلى خلق أو تعميق الانقسامات بين المكونات الاجتماعية وإضعاف الوحدة الوطنية. ومن ثم، ينبغي تصميم النظام اللامركزي بطريقة تضمن حماية الأقليات والتوازن بين كل الفئات. على سبيل المثال، في إقليم يحتوي على عدة قبائل تتمتع كل منها بأغلبية في منطقتها، قد يتم تصميم النظام الانتخابي لضمان حصول كل القبائل على تمثيل في المجلس الإقليمي، من أجل الحد من التوترات والنزاعات. ومن الافضل وضع قواعد التصويت داخل المجالس المحلية لضمان تمثيل كل الفئات الوازنة في عملية صنع القرار وليس الأغلبية فقط. ويمكن أيضًا إدراج ضمانات للأقليات في الدستور والقوانين والسياسات الوطنية لحماية حقوق الأقليات على الصعيد الوطني.

3.4.5       حث السلطات المحلية على التعاون

للتقليل من الميولات الانعزالية أو الانفصالية، قد يُطلب من الوحدات المحلية التعاون لتقديم خدمات معينة، خاصة الخدمات التي يتم تقديمها بنجاعة أكبر على نطاق أوسع، مثل التصرف في المياه.[22]. وفي المقابل، يمكن أيضًا اجبار الأقاليم\المحافظات المجاورة بالعمل معًا من خلال إدارة مشتركة  للبنية التحتية الإستراتيجية، مما يمكن أن يخلق الترابط والتعاون أفقيًا وعموديًا بين السلطات المختلفة.

3.4.6       وضع آليات تنسيق فعالة بين مستويات الحكم 

ان الانتقال إلى نظام لامركزي لا يعني قطع العلاقات بين مختلف مستويات الحكم بل يتطلب إنشاء آليات جديدة للتنسيق والتعاون الأفقي والرأسي بين مستويات ووحدات الحكم المختلفة لضمان استمرارية الخدمات. بما ان أحد الأهداف او المطالب المرتبطة باللامركزية لدى الأطراف السياسية والمواطن الليبي هو الدفع بالتنمية في كل المناطق، يجب ألا تؤدي اللامركزية إلى تدهور أو تعطيل الخدمات بسبب نقص التنسيق أو الصراع بين المناطق المختلفة أو مستويات الحكومة المختلفة في منطقة واحدة.

على سبيل المثال، شهدت تونس، التي أصدرت قانونا جديدا للحكم المحلي وأجرت أول انتخابات بلدية حرة ونزيهة في عام 2018، توترات بين الولاة (المحافظين المعينين من قبل الحكومة المركزية) ورؤساء البلديات (المنتخبين محليا). وعلى الرغم من كون الولاة موظفي الدولة (من المفترض أن يكونوا محايدين)، إلا أن العلاقات السياسية أو المصالح الاقتصادية قد تلعب دورا في تعيينهم، الأمر الذي يجعلهم في بعض الأحيان في صراع مع رؤساء البلديات من حزب معارض أو مجموعة مصالح منافسة. وهذه التوترات طبيعية في مرحلة الانتقال من دكتاتورية الحزب الواحد إلى ديمقراطية فيها تعددية حزبية. في ظل الديكتاتورية، كانت العلاقات بين المستوى المركزي والمحلي تُدار من خلال نظام أوامر هرمي من أعلى إلى أسفل، والتنسيق يتم عبر حزب حاكم مهيمن. إن الانتقال إلى ديمقراطية متعددة الأحزاب مع حكومات وطنية ومحلية منتخبة ذات تركيبات متنوعة يعني أن هناك حاجة لمزيد من التفاوض بين مختلف مستويات الحكومة، التي تمثل مصالح إقليمية وسياسية مختلفة.

ولم يحدد قانون الجماعات المحلية لعام 2018 آليات لضبط كيفية عمل مصالح الحكومة المركزية والمحافظة والبلديات معًا. وتركت هذه المسألة لتتحدد لاحقا في مرسوم تنفيذي، لكن ذلك لم يتحقق بسبب تأخيرات وخلافات سياسية. وإذا لم تخلق عملية اللامركزية آليات مؤسسية للتفاوض الفعال والوساطة بين المصالح المختلفة بطريقة تعاونية، فقد يؤدي ذلك إلى عرقلة الخدمات المحلية وحتى شللها. وقد ظهر ذلك في تونس بعد عام 2018، خاصة خلال جائحة كوفيد-19 عندما اتُهم بعض الولاة باستبعاد رؤساء البلديات بشكل انتقائي من الوصول إلى برامج المساعدة الحكومية وعرقلتهم من تنفيذ التدابير على أرض الواقع، الأمر الذي اثر على إيصال المساعدات إلى المواطنين.

يعد إنشاء آليات تنسيق رأسية وأفقية أمرًا مهمًا بشكل خاص في البلدان المقسمة مثل ليبيا، حيث يوجد خطر كبير لنشوب الصراع بين المناطق او المجموعات المختلفة، حتى بعد انتهاء الحرب. وإذا كانت الجهات الفاعلة الليبية تريد ان تحقق اللامركزية والحكم المحلي فوائد ملموسة للمواطنين بما في ذلك تحسين الخدمات في جميع أنحاء ليبيا، فمن الضروري التفكير عن كثب في كيفية إنشاء نظام حكم محلي يوجد فيه توازن بين الحكم المحلي من جهة والتنسيق والتماسك في مؤسسات الدولة من جهة اخرى. ومن المهم التفكير في اللامركزية – سواء في النظام الموحد أو الفيدرالي – ليس كمجرد عملية لتقسيم المسؤوليات والسلطات والموارد فحسب، بل لإعادة تشكيل العلاقة بين السلطات المركزية والمحلية بطريقة تضمن التوازن بين الاستقلالية والتعاون. إن عدم التفكير في التكامل والتنسيق بين مختلف مستويات الدولة قد يؤثر سلبا على الخدمات، مما قد يجعل المواطنين يستاؤون من اللامركزية، بدلاً من الاستمتاع بفوائدها.

عادة ما يتم إنشاء آليات للتنسيق بين مختلف مستويات الدولة ضمن قطاعات محددة مثل الصحة والتعليم والنقل. على سبيل المثال، أعادت البرازيل، دولة فيدرالية اعتمدت اللامركزية في دستور عام 1988، تشكيل نموذج اللامركزية الخاص بها من خلال إنشاء المزيد من آليات التنسيق بين الحكومة المركزية والولايات والبلديات من أجل تقديم الخدمات مثل الصحة والتعليم والرعاية الاجتماعية بشكل أنسب. على سبيل المثال، كرّس دستور عام 1988 الحق في الرعاية الصحية المجانية. خلال التسعينيات، نشرت وزارة الصحة معايير التشغيل الأساسية الوطنية (NOBs) ومعايير الحد الأدنى للرعاية الأساسية في مجال الصحة ووضعت نظام رعاية صحية شامل. وبموجب هذا النظام، تكون الدولة الفيدرالية مسؤولة عن الرعاية الصحية في المستوى الثالث، في حين تقوم البلديات بتوفير الرعاية الصحية الأولية. ويتقاسم المستويان مسؤولية الرعاية في المستوى الثاني بينهما. وكانت الحكومة الفيدرالية مسؤولة عن تمويل النظام ككل. ولضمان قدرتها على ادارة هذا النظام، كان على البلديات استيفاء الشروط والمعايير المعلنة من وزارة الصحة الفدرالية لإظهار قدرتهم الإدارية على القيام بالخدمات. استغرق الأمر حوالي سبع سنوات (1991-1998) لتنضم جميع البلديات إلى نظام الرعاية الصحية الشامل. وتتلقى البلديات بموجب ذلك تحويلات منتظمة لتمويل الرعاية الصحية بناءً على معايير واضحة وشفافة (مثل عدد السكان). وتقوم وزارة الصحة الفيدرالية بمراقبة البرنامج من خلال أنظمة البيانات التي وضعتها.

ويعطي مثال البرازيل فكرة عن أهمية الشراكة في اسداء الخدمات وضرورة وضع آليات تنسيق وثيقة بين كل مستويات الحكم. ومن أجل ضمان هذا التنسيق، أنشأت الحكومة الفيدرالية في البرازيل مجموعة كاملة من منتديات (forums) للتنسيق تشمل مديري البلديات والولايات والمديرين الفيدراليين لاتخاذ القرارات بشأن السياسة الصحية الوطنية، بما في ذلك لجان ثلاثية وثنائية مشتركة بين المديرين، والتي تشرف عليها الحكومة الفيدرالية. وتم انشاء مجلس إدارات الصحة البلدية (CONASENS) والمجلس الوطني لأمناء الصحة (CONASS) وتمثل هذه المجالس فضاءات مهمة للتفاوض بين مستويات الحكم، لم يكن منصوصا على هذه الفضاءات في دستور عام 1988، ولكنها تطورت مع مرور الوقت للاستجابة للحاجة الحقيقية للتنسيق بين كل المستويات. و لا تزال هناك مشاكل وخلافات بين مختلف مستويات الحكومة لكن النظام سمح بتوسيع وتحسين الخدمات الصحية الأساسية للمواطنين بشكل كبير.

يعد المثال البرازيلي للتنسيق الحكومي الدولي في مجال الرعاية الصحية مهمًا لأنه يسلط الضوء على أهمية النظر في كيفية منح السلطات المحلية الاستقلالية مع الحفاظ على التفاعل الوثيق والتنسيق المستمر بين مختلف مستويات الحكومة لتحقيق التنمية وتحسين الخدمات. ولا ينبغي أن يُنظر إلى اللامركزية على أنها تعني إنشاء لجزر مستقلة للسلطة داخل الدولة لأن هذه المقاربة لن تنجح في تحقيق طموحات المواطنين. علاوة على ذلك، فإن اللامركزية لا تعني إضعاف الدولة المركزية، بل تستدعي وجود دولة مركزية قوية. وكما يظهر المثال البرازيلي، فإن الأمر يتطلب تعزيز قدرة الدولة المركزية على تنظيم وتوجيه السياسات والبرامج، مع السماح للسلطات المحلية بدور أكبر في اتخاذ القرار، ووضع البرامج، والسياسات، وتنفيذها. قد يؤدي إهمال التكامل والتنسيق بين المستويات المختلفة إلى إضعاف الخدمات، مما يجعل المواطنين يتعاملون مع عملية اللامركزية بشكل سلبي بدلاً من الاستفادة من فوائدها.

خاتمة

تتجسد فكرة اللامركزية في تقاسم السلطات والموارد بين المركز والسلطات المحلية التي تتمتع بالاستقلال الإداري والمالي في إطار الدستور والقانون، كونها الأقرب إلى المواطنين والأكثر فهمًا لمشاكلهم، والأقدر على تقديم الحلول والتدخل السريع. كما تم الإشارة سابقًا، فإن اللامركزية ليست لعبة المجموع الصفري بين السلطات المركزية والمحلية، ولا تعني تفكيك الدولة المركزية أو انسحابها من مسؤولياتها. لتحقيق اللامركزية بنجاح، يجب تعزيز قدرات كل من السلطة المركزية والمحلية، مع إعادة توزيع الأدوار وطرق التفاعل بينهما من علاقة هرمية إلى تعاون وتنسيق وتكامل. كما يتطلب الأمر تقوية الأنظمة القضائية والإدارية، وتوسيع وجودها في جميع أنحاء البلاد، مما يمكن السلطات المحلية من القيام بمهامها بفعالية.

للحفاظ على وحدة الدولة الليبية في ظل نظام لامركزي، يجب وضع إصلاحات الحكم المحلي ضمن إطار أوسع يركز على بناء الدولة، وإعادة الإعمار ، والمصالحة الوطنية. ينبغي أن تتضمن هذه الإصلاحات آليات تكامل قوية تقلل من مخاطر الانقسام، كما هو موضح في هذه الورقة. يمكن ربط فكرة تعزيز الحكم المحلي بالمصالحة الوطنية عبر إشراك المجالس المحلية في مساعي تحقيق المصالحة، بناء على عمليات المصالحة المحلية التي حدثت في السنوات الأخيرة.[23] كما يمكن أن تشارك السلطات المحلية في معالجة القضايا الرئيسية ما بعد النزاع، مثل إعادة دمج المقاتلين السابقين، لتعزيز شرعية هذه السلطات وقدرتها على حل النزاعات وبناء التماسك الاجتماعي المحلي.

لا شك أن اللامركزية تحمل مجموعة من المخاطر والتحديات في ظل حالة الانقسام والتفكك الموجودة في ليبيا اجتماعيًا وسياسيًا ومؤسسيًا. ومع ذلك، فإن تعزيز الحكم المحلي من خلال نقل بعض السلطات والموارد من المركز إلى المستوى المحلي سيكون أمرًا ضروريًا في أي نظام مستقبلي يسعى إلى إعادة بناء شرعية الدولة والاستجابة للمظالم المرتبطة بالفوارق بين المناطق في الوصول إلى الخدمات والبنية التحتية. يتطلب تحديد شكل هذا النظام عملية حوار شامل تجمع بين صناع القرار والأطراف المؤثرة على المستوىين الوطني والمحلي من أجل إيجاد نظام سياسي وإداري يتماشى مع تطلعات الشعب الليبي نحو الحرية والكرامة والرفاهية، ويستثمر الإمكانات والفرص والثروات والتنوع الكبير في البلاد.

.

[1] خلال هذه الورقة، سيتم استخدام مصطلح “السلطات المحلية” للإشارة إلى جميع السلطات دون الوطنية (الأقاليم، المحافظات، البلديات، إلخ).

[2] مثلا، قرار وزير الحكم المحلي رقم 154 لسنة 2021 بتقرير أحكام في شأن الهيكل التنظيمي لجهاز الحرس البلدي ينص على إخضاع فروع الحرس البلدي والعاملين بها للإشراف المباشر لعميد البلدية.

[3] CILG-VNG International, The Situation of Decentralisation and Local Governance in Libya, 2022,  https://www.cilg-international.org/wp-content/uploads/2022/02/A33-The-situation-of-Decentralisation-and-Local-Governance-in-Libya.pdf

[4]

[5] قرار رقم 330 لسنة 2021 م بإصدار لائحة نظام الإيرادات المحلية.

[6] للمزيد عن المالية المحلية والبلديات، انظر:

“توليد الموارد المالية للبلديات: دليل إرشادي مختصر لبلديات ليبيا”، مشروع ممارسات النمو الاقتصادي في آسيا والشرق الأوسط، الوكالة الامريكية للتنمية الدولية، 2016؛ و “ليبيون يعيدون بناء ليبيا: أفضل الممارسات في الحكم المحلي”، منتدى الخبرات الليبية للسلام والتنمية، 2021.

[7]بالإضافة إلى ذلك، تفيد التقارير أن بعض البلديات تقوم بتحصيل بعض الضرائب، حتى لو لم يكن ذلك قانونيًا بشكل واضح.

[8] تم في 2022 اصدار قرار رقم 182 لسنة 2022 بإنشاء وتنظيم المقاطعات، ينص على إنشاء 18 مقاطعة، ولكن حسب المعلومات المتاحة لم يتم تفعيل هذا القرار حتى الآن.

 [9] ينص القانون رقم (9) لسنة 2013، الذي عدل القانون رقم (59) لسنة 2012  بشأن نظام الإدارة المحلية، على أن تمارَس الصلاحيات الموكلة إلى المجلس الإقليمي من قبل المجلس البلدي والوالي، إلى غاية تأسيس الأقاليم ومجالسها، مع استثناء بعض الصلاحيات التي ستُمارَس من قبل مجلس الوزراء.

[10] إن ترتيبات تقاسم السلطة على المستوى المركزي هي موضوع منفصل لن يتم تناوله في هذه الورقة، ولكن سيكون من المهم تناوله بالتزامن مع المناقشات حول النموذج اللامركزي المستقبلي.

[11] Schou, A. and Haug, M., Decentralisation in Conflict and Post-Conflict Situations, Working Paper No. 139, Norwegian Institute for Urban and Regional Research, 2005.

[12] تناقَش هذه الأسئلة بمزيد من التفصيل في الورقة الخاصة بتوزيع الوظائف، و ذلك ضمن هذه السلسلة.

[13] Faguet, Jean-Paul, Fox, Ashley M. and Poeschl, Caroline (2014) Does decentralization strengthen or weaken the state? Authority and social learning in a supple state. Department of International Development, London School of Economics and Political Science, London, UK; Gareth J. Wall (2016) Decentralisation as a post-conflict state-building strategy in Northern Ireland, Sri Lanka, Sierra Leone and Rwanda, Third World Thematics: A TWQ Journal, 1:6, 898-920.

[14] Siri Aas, R. Between War and peace: 50 years of Power-sharing in Nigeria, CSCW Policy Brief, 6. Oslo: PRIO, 208; Osaghae, E., “Ethnic Minorities and Federalism in Nigeria,” African Affairs, Volume 90, Issue 359, April 1991, pp. 237–258.

[15] Ricart-Huguet, Joan and Sellars, Emily, The Politics of Decentralization Level: Local and Regional Devolution as Substitutes (July 12, 2021). World Politics, Available at SSRN: https://ssrn.com/abstract=3885174 or http://dx.doi.org/10.2139/ssrn.3885174

[16] باستثناء آتشي وبابوا، حيث كانت هناك حركات انفصالية مسلحة في الماضي.

[17] Bardhan, P., Mitra, S., Mookerjee, D., Sarkar, A. (2008). “Political Participation, Clientelism, and Targeting of Local Government Programs: Analysis of survey results from rural West Bengal, India,” Boston University – Department of Economics – The Institute for Economic Development Working Papers Series dp-171, Boston University – Department of Economics; Manor, J. (1999). The Political Economy of Democratic Decentralization. Washington, D.C.: The World Bank.

[18] إيطاليا، على سبيل المثال، لديها نظام مراقبة وطني يستخدم نهج البيانات المفتوحة لتعزيز ثقة المواطنين ومكافحة الفساد – https://opencoesione.gov.it/en/

[19] https://projects.worldbank.org/en/projects-operations/project-detail/P167043

[20] https://www.jat.tn/fr/article/cr%C3%A9ation

[21] Cantoni, E. et al., Turnout in concurrent elections: Evidence from two quasi-experiments in Italy, European Journal of Political Economy, Volume 70, December 2021, https://doi.org/10.1016/j.ejpoleco.2021.102035

[22] في المناطق الكبيرة أو الريفية أو الصحراوية ذات الكثافة السكانية المنخفضة، قد يكون من المستحسن إعطاء الأقاليم\المحافظات المسؤولية عن اسداء جميع أو معظم الخدمات.

[23]في سيراليون، على سبيل المثال، اتخذت المجالس المحلية قرارات وأصدرت لوائح تتعلق بإعادة دمج المقاتلين السابقين، بالإضافة إلى عقد جلسات للمصالحة وتعزيز التماسك المجتمعي.

آفاق الحكم المحلي في ليبيا: تأطير النقاش للاستقرار بعد الصراع

إنتصار خريجي و رضا اللوح

31 أكتوبر 2024

النظام المحلي في ليبيا: ضبابية الرؤى وتداخل المفاهيم

مروة الشيباني

18 أبريل 2024

سلام بدون مصالحة في أيرلندا الشمالية: دروس لليبيا؟

ماريسا ماكغلينشي

15 أبريل 2024