النظام المحلي في ليبيا: ضبابية الرؤى وتداخل المفاهيم

مقدّمة

في أوائل العام 2024، أعلنت المفوضية الليبية العليا للانتخابات عزمها إجراء انتخابات 95 مجلساً بلدياً من أصل 144 في يوم واحد، واعتمدت لائحتها الانتخابية.[1] وقد جاء هذا القرار بعد تكليف المفوضية بتنظيم انتخابات المجالس البلدية خلفاً للّجنة المركزية لانتخاب المجالس البلدية.[2] ستكون هذه التجربة الأولى من نوعها التي تُجرى فيها انتخابات مجالس بلدية بشكل مستقلّ عن سلطة وزارة الحكم المحلي ومكتب رئيس الوزراء. فضلاً عن ذلك، أعلن المجلس الرئاسي عن استراتيجيته لاستكمال الهيكل الإداري، وشكّل لجنةً لدراسة إمكانية تطبيق نظام المحافظات، وتفكيك تكدّس السلطة في يد الحكومة المركزية.[3]

يُعَدّ ذلك إحدى محاولات التنظيم الإداري المتعدّدة لتعزيز اللامركزية في ليبيا، حيث حاول صانعو القرار في الفترات السياسية السابقة، سواء خلال العهد الملكي أم العهد الجماهيري، إنشاء نظام لامركزي مناسب. ففي الحقبة الملكية، صُمّم النظام المحلي بهدف بناء الدولة من خلال مؤسسات مركزية محلية، تمثّلت في البلديات والمحافظات في ثلاثة أقاليم هي طرابلس وبرقة وفزان.[4] أما في الحقبة الجماهيرية، فقد شهد الهيكل المحلي تغييرات سريعة وجذرية مرّت عبر ثلاث مراحل، بدءاً باستمرار التقسيمات الإدارية الملكية، ثم التحوّل إلى ما يُعرف بالبلديات، وصولاً إلى التحوّل إلى الشعبيات.

في العام 2011، ارتفعت الأصوات الشعبية المُطالِبة بإسقاط نظام الحكم، وشهدت البلاد احتجاجات شعبية واسعة النطاق تندّد بالتهميش وغياب الحوكمة الرشيدة، وما كان لهما من آثار على جودة الخدمات. فأسّس المجلس الوطني الانتقالي المؤقّت الهيكل الإداري المحلي في ليبيا بموجب القانون الدستوري رقم 59 لسنة 2012،[5] حدّد فيه الحكم على مستويات البلديات والمحافظات، تحت إشراف وزارة الحكم المحلي، على أن تُنتخَب المجالس المحلية مباشرةً من الشعب، بإشراف اللجنة المركزية لانتخابات المجالس البلدية.[6] وبناءً على هذه الرؤية، عُدّل القانون لنقل بعض صلاحيات المحافظ المتعلّقة بالضرائب، والميزانيات المحلية، والمشاريع الاستثمارية، مؤقّتاً إلى السلطة المحلية. [7]

لكن على الرغم من مرور أكثر من اثني عشر عاماً على إصدار القانون ولائحته التنفيذية، ومن مختلف المحاولات السابقة لتصميم نظام محلي لامركزي فعّال ومستقر، لا يزال الإفراط في المركزية وقلّة جودة تقديم الخدمات قضيةً جوهريةً ومحوراً أساسياً في النقاشات الحالية حول مستقبل الإدارة المحلية في البلاد. كما إن الأوضاع الحالية تُظهٍر اختلافاً واضحاً بين صانعي القرار بشأن النموذج المثالي للحكم المحلي الذي يتلاءم مع تحدّيات البلاد واحتياجاتها. ولا يقتصر هذا الاختلاف على الرؤى والتطلّعات المستقبلية فحسب، بل يشمل أيضاً المصطلحات والمفاهيم المتعلّقة بالنماذج المحتملة.

تناقش هذه الورقة السياساتية مسألة الحكم المحلي في ليبيا بهدف تسليط الضوء على أبرز التحدّيات التي تعترض حالياً صانعي القرار الليبيين في تصوّر وصياغة نظام حكم يستجيب لمتطلّبات المواطنين، ويتلاءم مع خصوصيات البلاد. يقدّم الجزء الأول من الورقة خلفية تاريخية لمختلف المحاولات السابقة لبناء نظام لامركزي من أجل فهم أسباب فشلها، فيما يناقش الجزء الثاني إشكالية تحديد نظام الحكم الأمثل لدى صانعي القرار، نظراً إلى وجود اختلافات جذرية في الآراء والتصوّرات، والتباسات حول المفاهيم والتعريفات، وهو ما يحول دون الوصول إلى اتفاق لتسوية المأزق السياسي الحالي.

تحميل الملف

الحكومة المركزية والمحليات: خلفية تاريخية

تسعى الدولة دوماً إلى اختيار النهج الأمثل في التنظيم الإداري بهدف تخفيف الأعباء الإدارية عن السلطة المركزية، والتركيز على المهام السياسية والاقتصادية الحرجة، من خلال تفويض بعض صلاحياتها إلى السلطة المحلية. وتُحدَّد طبيعة العلاقة بين الحكومة المركزية والمحليات عبر توزيع الصلاحيات والموارد، سواء استناداً إلى الدستور أم عن طريق التشريعات والقوانين. ويمكن التمييز بين مفهومَين لهذه العلاقة، وهما الإدارة المحلية والحكم المحلي.

حُدّدَت الإدارة المحلية في الأنظمة الليبية السابقة والحالية كافّة على أنها نظام يعزّز اللامركزية. وكانت العلاقة بين المركز والمحليات علاقة توجيهية وإشرافية، حيث تتولّى الحكومة المركزية توجيه الوحدات المحلية من خلال تحديد الأولويات ونوعية المشاريع الخدمية، وتحديد حجم الموارد المالية وآليات توزيعها، في حين تنفّذ السلطات المحلية هذه التوجيهات.

هيمن في عهدَي الملكية والجماهيرية النظام المركزي ومؤسساته المتمثّلة في الوزارات والأمانات،[8] التي عملت كممثّل للحكومة المركزية في المناطق المحلية، ما قلّل من أهمية وجود الهيئات المحلية. واستمر هذا الوضع حتى بعد صدور القانون رقم 59 ولوائحه التنفيذية، ما حال دون نقل الصلاحيات إلى المجالس البلدية.[9] ودائماً ما جرى التعامل مع الثغرات في عملية التواصل والاستجابة لبعض القضايا المحلية، سواء على مستوى المنطقة أم الإقليم، من خلال تشكيل لجان طارئة أو تنفيذية مؤقّتة.[10]

كانت بنية الدولة في عهد الملكية بسيطة وناشئة، وحديثة الانتقال من الحكم المركزي وسنوات الاحتلال إلى الحكم الذاتي.[11] فلم تُمنَح أيّ صلاحيات مالية أو اختصاصات للوصول إلى الموارد الاقتصادية إلا بعد إصدار قانون العام 1967 بشأن الإدارة المحلية، والقانون رقم 19 لسنة 1968، الذي أقرّ الاستقلالية المالية والقانونية للمحليات. عندئذ بدأت عملية تفعيل الهيئات المحلية وتحويلها إلى هيئات تمتلك الاختصاصات التي تمنحها الحقّ في تحصيل الضرائب وتجميعها في خزانة الدولة.

أما في عهد الجماهيرية، الذي تميّز بشعار الثورة الشعبية وقرارات الشعب، فقد استفرد مجلس قيادة الثورة بأعمال السيادة العليا، والتشريع، ووضع السياسة العامة للدولة نيابةً عن الشعب، أي أن المركزية كانت مطلقةً في صنع القرارات وتحديد الأولويات المحلية، ولم يكن ممكناً على الإطلاق الوصول إلى الموارد الاقتصادية. ويمكن تقسيم هذه الفترة الانتقالية إلى مرحلتَين:

  • المرحلة الأولى بين العامَين 1970 و1973: أُصدِرَت مجموعةٌ من القوانين، منها النظام المحلي، وتنظيم وزارة الإدارة المحلية. وبرزت في هذه المرحلة المفاهيم العامة حول الملامح القانونية للدولة اللامركزية، ولم تمنح القوانين سهولةَ وصولٍ إلى موارد الدولة.
  • المرحلة الثانية بعد العام 1973: شُكّلَت اللجان الشعبية بهدف صنع قرارات وإصدار قوانين تعكس الإرادة الشعبية، إلا أن غياب الحوكمة الرشيدة حال دون تفكيك مظاهر المركزية. عند النظر بعمق إلى هذه القوانين، يتّضح أن هذه الفترة شهدت غياباً تاماً للمؤسسات السياسية والرؤى، وأن التشريعات الفوضوية بدون قاعدة دستورية موحّدة تسبّبت بإصدار قرارات مُسبَقة الأوان، وبرؤى غير قابلة للتنفيذ. ناهيك عن ذلك، مُنِحَت الصلاحيات الإدارية، وأذونات الترخيص والعقود، والتعيينات، للّجان الشعبية في غياب جهة رقابية، ما أدّى إلى ارتفاع معدّلات الفساد بنسبة عالية جداً، فأُعيدَت الصلاحيات بسرعة إلى المركز.

بعد العام 2011، برز فراغ إداري في الهيكل المحلي لم يتّضح فيه شكل الصلاحيات الممنوحة. استدعى ذلك ضرورة إصدار قانون ينظّم عمل الإدارة المحلية، ويوضح شكل العلاقة مع المركز. وهكذا، أُصدِر القانون 59 للإدارة المحلية، الذي أعطى المحافظ صلاحية اعتبارية مستقلّة، واختصاصَ تحصيل الضرائب، ووصولاً إلى موارد الدولة، إلا أن غياب تصميم الحدود الإدارية وعدم تعيين المحافظ أدّيا إلى تجميد الجانب المتعلّق بنقل الصلاحيات إلى المحليات، فجُمّدَت بذلك المواد المتعلّقة بإنشاء المحافظات. وقد شرعت الحكومة أيضاً في عملية انتخاب البلديات، لكن التحدّيات الأمنية أدّت إلى توقّف العملية الانتخابية للمجالس البلدية،[12] ما نتج عنه عدم استكمال الهيكل الإداري، وتنفيذ جزئي للقانون. في العام 2021، أُصدِر القرار 330 بشأن لائحة تنظّم آلية تحصيل الرسوم ذات الطابع المحلي،[13] وكيفية التعامل مع تلك الإيرادات تفعيلاً للإدارة المحلية، ومنح الاختصاصات للبلديات للقيام بدورها، غير أن هذا القرار لم يُعمَل به إلا في عدد بسيط من البلديات. فضلاً عن ذلك، تميّزت هذه الفترة بالتدخّلات العديدة في ملفّ الإدارة المحلية، كما تعدّدت الحكومات والقرارات، ولم تُمنَح الاستقلالية للمجالس البلدية.

بعد سنوات من فشل تطبيق قانون الإدارة المحلية، وتأخّر إنشاء المحافظات، حاولت حكومة الوحدة الوطنية معالجة مسألة عدم إمكانيتها تسليم المخصّصات المالية للبلديات، فأصدرت قراراً في العام 2022 يقضي باعتماد تقسيمات إدارية جديدة تُسمّى المقاطعات.[14] بيد أن هذا القرار يتضارب مع القانون 59 في تطبيق هيكلية نظام الإدارة المحلية، حيث يستبدل القرار وحدة المحافظات بوحدة المقاطعات التي ليس لها مرجع في القانون. هذا وشُكّلَت المقاطعات بتكليف رئيسٍ لكلّ مقاطعة من قبل وزارة الحكم المحلي، في حين أن قانون الإدارة المحلية يشكّل المحافظات عن طريق الانتخابات المباشرة. وعليه، يتعارض قرار المقاطعات مع مبدأ التداول الديمقراطي للسلطة.

إشكالية الرؤى وتداخل المفاهيم

بالنظر إلى كل المحاولات السابقة لتأسيس نظام محلي في ليبيا منذ إعلانها دولةً مستقلّة، نلاحظ أن العمل على النظام جرى عبر زوايا تطبيق مختلفة، إلى جانب سوء الإدارة وقلّة التنسيق. في المقابل، أدّى انعدام الاستقرار السياسي والأمني بشكل مباشر إلى اضطراب مختلف أنظمة الحكم، وحال دون صياغة رؤية موحّدة لنظام الحكم في ليبيا. ولمّا كانت لمفهوم الدولة اللامركزية دلالاتٌ سياسيةٌ واقتصاديةٌ واجتماعيةٌ لا بدّ من انسجامها مع الواقع السياسي، تؤدّي الاختلافات في المفاهيم والتفسيرات دوراً أساسياً في تشكيل الرؤى. ولذا من الضرورة بمكان توضيح بعض الالتباسات التي تميّز النقاش الحالي حول مستقبل الحكم المحلي في ليبيا.

على سبيل المثال، تعمل الدولة بنظام يهدف إلى تعزيز اللامركزية وفقاً لقانون 59 للحكم المحلي، إلا أن مضمون مواده هو أقرب إلى مفهوم اللامحورية بإشراف وزارة الحكم المحلي، ووفقاً لرؤية مجلس الوزراء. فما هي اللامركزية، وما الفرق بينها وبين اللامحورية؟ تُعرَّف اللامركزية على أنها طريقة لتنظيم الدولة تتمثّل في إسناد صلاحيات ذاتية، مشتركة ومنقولة من السلطة المركزية، إلى مجلس مستقلّ ينتخبه المواطنون المحليون، ويتمتّع بالشخصية القانونية والاستقلالية المالية بمعيار التدبير الحرّ في الرقعة الجغرافية المحدّدة التي تخضع للمراقبة اللاحقة. أما اللامحورية، فهي أداة لتمثيل السلطة المركزية بهدف تسيير الشؤون المحلية، تندمج ضمن منظومة هرمية تتبع المركز، وتخضع لقراراته وأولوياته، من أجل تقريب الخدمات من المواطنين بصلاحيات مركزية وإدارة محلية. وهكذا، انطلاقاً من هذه التعاريف، يتّضح أن مصطلح “الإدارة المحلية” المُتداوَل حالياً في ليبيا يشير إلى نظام حكم لامحوري، وهو يختلف إذاً عن مصطلح “الحكم المحلي” الذي يشير إلى نظام حكم لامركزي.

فضلاً عن ذلك، تُطرَح إشكالية التناقضات والتضارب في الاختصاصات والصلاحيات بين الوزارات والوحدات المحلية. فعلى سبيل المثال، يمنح قانون الاستثمار رقم 9 لسنة 2010 كلّاً من هيئة تشجيع الاستثمار ووزارة التخطيط والاقتصاد صلاحيةَ دراسة المشاريع ومنحها، والتعاقد مع المستثمرين،[15] ولكن ذلك يتعارض مع صلاحيات المحافظة المُشكَّلة وفقاً للقانون 59، ومع وحدة المقاطعة المُشكَّلة وفقاً لقرار الحكومة. أضِف إلى ذلك أن قانون الإدارة المحلية البلدية يمنح صلاحيات خصخصة الأراضي العامة وتوزيعها والاستثمار فيها. وهكذا يتعارض قانون الملكية بالطريقة نفسها مع القانون 59 للإدارة المحلية، وقرار الحكومة المتعلّق بالمقاطعات.

إلى جانب هذه الاعتبارات الدلالية المتعلّقة بالمصطلحات والمفاهيم، وإشكالية التضارب في الصلاحيات، يؤثّر الاختلاف في التفكير والتوجّهات السياسية بدوره على الرؤى والتصوّرات بشأن كلّ من الحكم المحلي والإدارة المحلية في ليبيا. وقد تباينت هذه الآراء والتوجّهات خلال المقابلات التي اعتمد عليها هذا البحث. فعلى سبيل المثال، أشار رئيس أحد الأحزاب السياسية إلى أن “ليبيا يجب أن تتبنّى نظام الحكم المحلي الذي هو أوسع وأشمل من مصطلح الإدارة المحلية. فهو نظام سياسي للدولة بديل عن حلول التقسيم والفدرالية، كما له دور رئيس في تفتيت الصراع على الموارد الاقتصادية”. كذلك أفاد أحد المستشارين في وزارة الحكم المحلي بأن “الإدارة المحلية هي هيكل تنفيذي هرمي يقع تحت الحكومة المركزية، وأن وظيفته هي تقديم الخدمات وتنفيذ القرارات والمشاريع التنموية على المستوى المحلي. ضمن هذا المفهوم، تضطّلع الحكومة المركزية بدور رئيس في عملية التوجيه والرقابة على نظام الإدارة المحلية”. واستناداً إلى رؤية مختلفة، أشار أحد المستشارين في المجال الاقتصادي إلى أن “الإدارة المحلية عملية تنموية للاقتصاد. وفقاً لهذا المفهوم، يتطلّب تطبيقُ الإدارة المحلية تغييرَ القوانين واللوائح المركزية لمنح البلديات صلاحية حرية التصرّف بالموارد المحلية في ما يتعلّق بالضرائب والجباية”.

ساهمت هذه الجدالات حول المصطلحات والمفاهيم في استمرار المأزق والجمود السياسي حول النظام السياسي الأمثل لليبيا. ومن هنا أصبح ضرورياً تركيز النقاش على الأهداف التي يتوخّاها السياسيون الليبيون سعياً إلى بناء نظام حكم يلبّي احتياجات الشعب، ويضمن السلم الاجتماعي، بغضّ النظر عن التسميات. وبينما قد تشكّل أنظمة الحكم المُعتمَدة في مختلف البلدان اللامركزية نماذج يُستلهَم منها، يدعو كلٌّ من التفكّك السياسي الحالي، وخصوصيات ليبيا الاجتماعية والاقتصادية، إلى التركيز على مدى عمق اللامركزية الذي بإمكانه الاستجابة للتحدّيات المطروحة. ويمكن تحديد عمق اللامركزية من خلال تحديد أبعادها، التي يمكن تقسيمها إلى ثلاثة:

  • اللامركزية السياسية: انتخاب مسؤولين سياسيين محليين، ومنحهم سلطة اتخاذ القرارات بشأن سياسات معينة.
  • اللامركزية الوظيفية: نقل الخدمات، وتوزيع الصلاحيات الإدارية بين الحكومة المركزية والوحدات المحلية.
  • اللامركزية المالية: منح الوحدات المحلية صلاحية استخلاص الموارد، وحرية التصرّف فيها.

خاتمة

كان لغياب الفهم الكافي لدى صانعي القرار للهدف من النظام المحلي أو الرؤية حوله، وهشاشة البنية التحتية، انعكاسٌ على صياغة النظام وتطبيقه، حيث كانت المحاولات السابقة لتأسيس الأنظمة المحلية بدائيةً في معظمها، وارتكز جلُّها على العدد والشكل من دون التفكير في الغرض الأساسي من تشكيل هذه الأنظمة. وحتى إن استُكمِل الشكل الإداري (المقاطعات أو المحافظات)، لا تزال مشكلة التضارب في الاختصاصات والصلاحيات قائمةً بين الوزارات والوحدة الإدارية المُشكَّلة. يتّضح إذاً أن جزءاً كبيراً من قوانين الدولة لا يزال يدعم المركزية، ويحتاج أشدّ الحاجة إلى التعديل والتحديث.

يُعرَّف أيّ نظام محلي إداري من خلال تعريف نظام الحكم وطبيعة العلاقة بين السلطات، ثم يُحدَّد النظام وفقاً لمجموعة من المعايير، أهمّها شكل الدولة، ونوع الاقتصاد، والحالة السياسية. تنتج عن هذه المعايير ملامحُ شكل النظام المحلي، سواء كان نظام حكم مركزي، أم إدارة محلية، أم لامركزية إدارية، أم حكماً ذاتياً، ويقع هذا التصنيف تحت ما يُسمّى بنظام الدولة الموحّدة والدولة البسيطة.[16] وعند الانتقال إلى مرحلة متقدّمة في عملية اختيار النظام المحلي يأتي نظام الدولة المُركَّبة، أي الشكل الاتحادي أو الفدرالي أو الكونفدرالي، الذي تُحدَّد بناءً عليه طريقةُ اختيار الجسم المحلي بالانتخاب أو التعيين أو التكليف.

إن المفاهيم المتعلّقة باللامركزية المذكورة أعلاه كلّها مهمّة وفعّالة، ولكنها تتلاءم مع سياقات معيّنة، ولذا من الضروري أن يعمل صناع القرار ومختلف أصحاب المصلحة على توضيح المفاهيم المختلفة والاتفاق عليها، ثم فتح نقاش واسع حول الأهداف التي يُرجى تحقيقها من نموذج حكم معيّن يستوعب خصوصيات ليبيا، ويضمن التوزيع العادل للسلطة والموارد في إطار الحوكمة الرشيدة، من أجل تحقيق الاستقرار السياسي، وتحسين جودة الخدمات للمواطن.

[1] القرار رقم 43 بشأن اعتماد اللائحة التنفيذية لانتخابات المجالس البلدية.

[2] القانون رقم 20 بشأن تعديل القانون رقم 8 الخاص بإنشاء المفوضية العليا للانتخابات.

[3] بوابة الوسط، “الكوني: نظام المحافظات يحقق العدالة في توزيع موارد الدولة”، 9 آب/أغسطس 2023،  https://bit.ly/3JfBuXV

[4] شكل النظام السياسي لحقبة الملك السنوسي هو مركزي بهيكل إداري محلي بـ3 أقاليم، برقة وفزان وطرابلس، ووجود عشر بلديات، ثم تغيير التقسيم إلى محافظات.

[5] مركز جنيف لحوكمة قطاع الأمن، “قانون رقم (59) لسنة 2012 بشأن نظام الإدارة المحلية”، 18 تموز/يوليو 2012،  https://bit.ly/3xAAsTC

[6] فرانس 24، “ليبيا تنظم أول انتخابات للمجالس البلدية”، 30 تشرين الثاني/نوفمبر 2013، bit.ly/3PZt5LT

[7] أصدر المؤتمر الوطني العام القانون رقم (9) لسنة 2013، وهو تعديل للقانون (59) الخاص بالإدارة المحلية. تضمّن القانون إضافة المادة رقم (80)، التي تنصّ على الشروع في إنشاء البلديات، ونقل الاختصاصات إليها، إلى حين صدور قانون إنشاء المحافظات. ووفقاً لهذه المادة أُصدِر القرار رقم (159) لسنة 2019القاضي بنقل اختصاصاتٍ إلى وحدات الإدارة المحلية. كذلك عملت حكومة الوحدة الوطنية على استكمال نقل الاختصاصات منذ استلام ولايتها.

[8] الجزيرة، “النظام السياسي في ليبيا”، 23 شباط/فبراير 2011، https://bit.ly/3VWQ5Pd

[9] المجمع القانوني الليبي، “قرار رقم 856 لسنة 2022 م بتمكين البلديات من اختصاصاتها المحلية وتقرير حكم”، 28 أيلول/سبتمبر 2022، https://bit.ly/3Q2JFdQ

[10] وكالة الغيمة الليبية للأخبار، “لجنة الأزمة بالجنوب في الحكومة المؤقتة تسلم أجهزة طبية للمراكز التخصصية”، 25 تموز/يوليو 2019، https://bit.ly/3VY3GG5

[11] عُرف عهد الملك بالدولة الاتحادية، مع وجود أقاليم عدّة تمتّعت بالاستقلالية الإدارية فقط. وقد تولّت الحكومة، التي سُمّيَت آنذاك “حكومة الاتحاد”، برئاسة الملك صنع القرار السياسي ووضع الرؤى الاقتصادية على مستوى الأقاليم.

[12] الشرق الأوسط، “مسلحون يعطلون انتخابات في جنوب ليبيا”، 26 آب/أغسطس 2020، https://bit.ly/4aTx0C4

[13] وكالة الأنباء الليبية، “مجلس الوزراء يصدر القرار (330 لسنة) (2021) بشأن لائحة نظام الإيرادات المحلية للبلديات والتي تنظم آلية تحصيل الرسوم ذات الطابع المحلي، وكيفية التعامل مع تلك الإيرادات”، 24 آب/أغسطس 2021، https://bit.ly/4awjFQl

[14] المجمع القانوني الليبي، “قرار رقم 182 لسنة 2022 م بإنشاء وتنظيم المقاطعات”، 28 شباط/فبراير 2022، https://bit.ly/4ayNEXR

[15] المجمع القانوني الليبي، “قانون رقم 9 لسنة 2010 م بشأن تشجيع الاستثمار”، 28 كانون الثاني/يناير 2010، https://bit.ly/43ZQZfX

[16] الدولة البسيطة، وتُسمّى بالدولة الموحّدة، هي الدولة التي تتولّى الأمور الداخلية والخارجية، وفيها جهة واحدة فقط، حيث تتركّز جميع السلطات في يد الحكومة التي تشرف على عملها. كما تتميّز بوحدة التشريع السياسي، والتنفيذ، وتكون جميع القرارات والمهام والوظائف الموكَلة بها، وكيفية تنفيذها، مستمدّة من دستور البلاد الرئيس. ومن الأمثلة على الدول الموحّدة اليابان والكويت والعراق.

In focus

النظام المحلي في ليبيا: ضبابية الرؤى وتداخل المفاهيم

مروة الشيباني

18 أبريل 2024

سلام بدون مصالحة في أيرلندا الشمالية: دروس لليبيا؟

ماريسا ماكغلينشي

15 أبريل 2024

العواصف الرملية في ليبيا: الحاجة الملحة لسياسات التصدي

ريما حميدان

5 مارس 2024